Site icon IMLebanon

شبهات في واشنطن

الأسبوع الماضي تحدثت عن «الأدلة الظرفية»، التي أخفتها الولايات المتحدة بين أسطر 28 صفحة حجبتها بزعم أنها تسيء إلى المملكة العربية السعودية، لكنها ظلت وساستها وإعلامها يلوحون ما أضفى ظلالاً ثقيلة من الشك على الرياض ودورها في الحرب على الإرهاب لنية في نفس يعقوب الأميركي، لا أستطيع أن أجزم بها، إذ لا توجد «أدلة ثبوتية» تكشفها وتحسم الجدل حولها.

ودعوت إلى تبديل المواقع في محكمة النوايا والشكوك ونعرض، بصفتنا سعوديين وعرباً ومسلمين «أدلتنا الظرفية»، التي تؤسس لشكوكنا حول دور أميركي وغربي في صناعة الإرهاب والتطرف في عالمنا، والعالم أيضاً.

قد يبدو حديثي هذا مشابهاً لتصريحات المرشح للانتخابات الأميركية دونالد ترامب، الذي اتهم الرئيس الأميركي باراك أوباما، وكذلك منافسته في الانتخابات هيلاري كلينتون بتأسيس تنظيم «الدولة الإسلامية» (داعش)، لكنه أيضاً لا يختلف كثيراً عن حماقة اتهام السعودية طوال عقد كامل وإخفاء الـ28 صفحة.

خلال عملي صحافياً ميدانياً في هذه الصحيفة، في حقبة التسعينات، استوقفتني «أدلة ظرفية» تثير الريبة، على أن هناك، في الولايات المتحدة والغرب، من شجع أو تغاضى عن نمو حركات التطرف العنفي الإسلامي، وإذا ما قبلت بهذه الفرضية، لك أن تختار ما شئت من أسباب لذلك، مثل خدمة إسرائيل بإشاعة الفوضى في المنطقة وتقبيح المقاومة، أو تثبيت الأوضاع السيئة في العالم العربي بتخويف مجتمعاته والعالم من أن البديل لتلك الأنظمة، التي تخدم الغرب، قبيح ومعاد، ولكل استنتاج ما يؤيده أو يفنده.

إنها حال تشبه تشجيع الرئيس السوري بشار الأسد لعسكرة الثورة، بل حتى استدعاء «القاعدة». في شباط (فبراير) 2012 كتبت مقالة توقعت فيها ظهور «القاعدة» في سورية، وأشرت إلى أن النظام يسعى لذلك بإطلاق سراح رموز معروفة بانتمائها للتنظيم، ونجحت بالفعل مساعي الأسد، ومكنته من إطلاق يده بعنف أعمى ضد شعبه بزعم أنه يحارب الإرهاب وعصابات مسلحة لا حركة سلمية تدعو للديموقراطية. اليوم، حتى العالم الحر الديموقراطي متردد في مساعدة الشعب السوري «لأن الصورة اختلطت عليه وتداخلت الجماعات الإرهابية مع المعتدلة»، وأضحت الحرب على «داعش» متقدمة على إسقاط النظام لدى واشنطن ولندن، بل إن قواتهما (آخرها البريطانية، التي وصلت هناك وكشفت عنها هيئة الإذاعة البريطانية الأسبوع الماضي) منشغلة بالحرب على «داعش» لا بحماية المدنيين، الذي يتعرضون للقصف والقتل من النظام وحلفائه، حتى بالغازات السامة المحرمة، التي يفترض أن يدخل الغرب حرباً لحماية ضحاياها.

الشاهد أن صناعة الإرهاب مفيدة لأصحاب الأجندات الملتوية، وإذ إن العالم قبيح وبارد سياسياً، وفي السياسة كثير من الأجندات الملتوية، فلنا أن نشك في أنه كانت هناك أجندات ملتوية في واشنطن ولندن في الفترة التي سبقت11 أيلول (سبتمبر).

من «الأدلة الظرفية»، التي استوقفتني وقتذاك حالة الشيخ الضرير عمر عبدالرحمن، المسجون حالياً في الولايات المتحدة بتهمة التحريض على العنف، الذي اعتقل بعد المحاولة الأولى لتفجير مركز التجارة العالمي، التي كانت عام 1993. قبيل ذلك بعامين، حصل الشيخ على تأشيرة دخول سياحية إلى الولايات المتحدة على رغم أنه كان على لائحة أميركا للمشتبه بهم. الأغرب أنه حصل على التأشيرة من الخرطوم وفي وقت كانت العلاقات المصرية – السودانية سيئة جداً، والرجل مطلوب في مصر، وأصغر موظف متدرب في السفارة بالخرطوم لا بد من أن يعرف كل ذلك، ولكن الشيخ حصل على التأشيرة، ووصل إلى نيوجيرسي واستقر فيها، ولكن كان هناك جهاز أميركي آخر لا يريده، فأصدرت إدارة الحرة قراراً بإلغاء تأشيرته، فتقدم بطلب «غرين كارد» وحصل عليه خلال أسابيع قليلة! وهذا قلما يحصل، ثم غادر الولايات المتحدة وعاد إليها، وحاولت الإدارة نفسها منعه، لكنه دخل وحصل على حق اللجوء السياسي. قصة غريبة جداً، فالرجل ليس رجل أعمال ثري، أو حتى ناشط سياسي معتبر، ولا عالم دين له قبول واسع، إذ كان معروفاً بانتمائه إلى «الجماعة الإسلامية» المتطرفة والمتورطة وقتذاك بأحداث عنف بمصر، وأمضى حكماً بالسجن في قضية اغتيال السادات، ولم تكن واشنطن يومها مناوئةً لنظام الرئيس الأسبق حسني مبارك، ولا توجد حال رأي عام مهتمة أو ضاغطة لاستقبال هذا الرجل الذي لا يعرفه أحد! فهل كان هناك جهاز أميركي ما يريد بقاءه في الولايات المتحدة؟

التقيت عمر عبدالرحمن أكثر من مرة في نيوجيرسي، ولكن ما زلت حائراً حيال ظروف مكان لقائنا الأخير، كان بلوس أنجليس، حيث أجريت معه حواراً مطولاً نشر في «الحياة». كان المنظر يشبه أفلام عادل إمام عن الإرهاب، رجال بجلابيب قصيرة، ونساء منقبات يدخلن ويخرجن مع أطفالهن، لا أحد يتكلم معي إلا بعبارات مقتضبة، باستثناء الشيخ الذي ما زلت مصدوماً بإجابته عن آخر سؤال سألته: كيف تجيز للجماعة استهداف عسكري بسيط طلب منه حماية بنك في أسيوط؟ إنه مجرد موظف يتبع تعليمات من أمره. فرد علي: إنه متضامن مع حكومة كافرة فيجري عليه ما يجري عليها! كان ذلك قبل «داعش» و «القاعدة»، وفي لوس أنجليس، ونشر الحديث في «الحياة» قبل عقدين.

كنت أنوي أن أسترسل بقصص أخرى عايشتها، عن سيد نصير، وأبي مصعب السوري، وأبي قتادة، ويمكن البحث عنهم في «غوغل»، إذ لا تتسع المساحة للحديث عنهم، إذ التقيت بهم جميعاً، ولدي تفاصيل كثيرة عنهم تثير الحيرة، والريبة في التساهل معهم ثم الانقلاب عليهم. جمعت رسائل وأشرطة «الأنصار»، التي كان يفتي فيها الأخيرون وتوزع على المصلين بعد صلاة الجمعة في مسجد في لندن، ولا تزال عندي مجموعة منها. من يحللها يجدها المادة الخام الأولى لأفكار تنظيم «داعش» وعنفه وتوسعه بالتكفير والقتل. دروس أبي قتادة في أكتون بضواحي لندن، التي كان يؤممها لمدنيين وتشد إليها رحال «السلفية الجهادية» الناشئة في أوروبا، وكانت أشبه بورش عمل للتكفير والعنف. المسلم الذي نجا من لوثة التكفير وحضرها شاب رأسه بعدها من تطرف خطابها. أبو مصعب رفع قضيةً أمام محكمة بريطانية علي وعلى زميلي في هذه الصحيفة وصاحب أكثر من كتاب عن الإسلام السياسي، كميل الطويل، وكسبها بزعم أننا كشفنا عن اسمه الحقيقي (محمد ست مريم) في تقرير نشر في الجريدة وعرضناه للخطر. كان يفتي بقتل نساء وأطفال ضباط الجيش الجزائري، ثم يتنقل بحرية بين لندن ومدريد، ويستورد منتجات خان الخليلي من مصر ويتاجر بها. كل ذلك كان يجري في مرحلة صعود العنف السياسي الإسلامي في مصر والجزائر وليبيا، وخلال حرب البوسنة، التي أصبحت بؤرة للتجنيد والتحريض، على رغم حرج المرحلة. كان كل هؤلاء يتصرفون بحرية، لماذا؟

مثلما قلت، ما ذكرته مجرد شبهات، ليست أدلة قاطعة، ولكن تستدعي الشك في أن هناك من رأى فائدة من انتشار التطرف لغرض في نفس يعقوب. هل توقف ذلك؟ جريدة «لوموند» الفرنسية، وفي عدد صادر منتصف الشهر الماضي، تقول: «لا»، ففي واحد من أخطر التقارير الصحافية الاستقصائية، التقت الصحيفة الفرنسية العريقة، بسوري استخباراتي كشف عن تفاصيل مقلقة عن تعاون جهات سورية عدة ضد النظام مع الاستخبارات الأميركية، قبل صعود «داعش» وخلاله، وقدموا خططاً مفصلة لاستهدافه والقضاء عليه قبل انتشار شره وتمتين عوده وتعميق جذوره، وفي كل مرة يتراجع الأميركيون، لذلك سأل كاتب التقرير الصحافي الفرنسي المعروف بنجامين بارث وجعله عنوانه لتقريره المطول «لماذا لم يفعل الأميركيون شيئاً»؟

ربما أكون متوهماً، لكن على الأقل، وإذا ما برأنا الإدارة الأميركية، من باب أنه لا يعقل أن تتآمر بشيء كهذا، ثم نثرنا قصص الصفحات الـ28 وظروف إخفائها، مع تفاصيل عمر عبدالرحمن وتأشيرته، وأبي قتادة وأبي مصعب ولندنستان، التي نشطا وصنعا فيها جل فقه التطرف والتكفير ثم نوصل الخيوط بـ «القاعدة» الذي يسرح في إيران، والسجناء الذين يطلق سراحهم في العراق، ثم سقوط الموصل، ثم مناوأة الأميركيين للثوار الحقيقيين الممثلين لغالبية السوريين وانحيازهم لحزب كردي صغير ومتهم بالإرهاب! فإن هناك ما يدعو إلى الشك في وجود جهاز ما، أميركي أو غربي، يخطط لتلك المؤامرات، أو أن معرفة السياسي الأميركي بالشرق الأوسط لا تتعدى معرفة كاتب مسلسل «تايرنت».