IMLebanon

هل مقايضة 1990 تتكرّر في 2023؟

 

 

يكثر الحديث في الآونة الأخيرة عن مقايضة تحصل بموجبها إيران على لبنان مقابل عدم تدخّلها في غزة، فهل هذه المقايضة ممكنة؟

ما عزّز انطباع المقايضات انه بعد شهر على عملية 7 تشرين الأول لم تتدخّل إيران لمساعدة «حماس»، وفي حال انتهت الحرب من دون تدخلها ستحاول ان تقبض ثمن موقفها، والأمر نفسه ينطبق على السيد حسن نصرالله الذي سيحاول بدوره انتزاع مكاسب سياسية تعوِّض عدم تدخله العسكري، ولكن يجب التمييز بين المحاولة وبين القدرة على تحقيقها.

 

وقد أكد السيد نصرالله في كلمته انّ عملية 7 تشرين «كان قرارها فلسطينيا مئة في المئة»، وان «المقاومات التي ترتبط بمشروع واحد ضمن المحور تتحرّك عسكريا بشكل منفصل ومن دون تنسيق مسبق»، ما يعني توجيه رسالة مفادها انه لا يوجد ما يوجِب تدخله، لأنه لو كانت «حماس» تريد انخراطه الكامل في المواجهة لكانت وضعته في صورة عمليتها وطلبت منه ان يفتح جبهة أخرى مع إسرائيل، وما يقوم به من إشغال للجيش الإسرائيلي يتولّاه من تلقاء نفسه حفظاً على صورته أمام جمهوره وبيئته وما أُطلق على تسميته وحدة الساحات.

ولكن السيد نصرالله أبقى «كل الاحتمالات في الجبهة اللبنانية مفتوحة»، وهذا أمر بديهي في سياق سياسة الإشغال وعدم ترييح إسرائيل، ولا يستطيع أساساً سوى ان يعلن انّ «كل الخيارات مطروحة ويمكن الذهاب إليها في كل الأوقات»، وخلاف ذلك يعني انه تخلى عن «حماس» وأسقطَ مبرر وجوده في مواجهة إسرائيل وأقفل الباب أمام مفاجآت ميدانية لا يمكن التنبؤ بها، لأن ما يصح قبل ساعة قد لا يصح بعدها.

و»كل الاحتمالات مفتوحة» هو عنوان مرحلة 7 تشرين، وستبقى هذه الاحتمالات مفتوحة حتى انتهاء الحرب، لأنه في اي لحظة يمكن ان تقرِّر إيران الانخراط فيها عن طريق «حزب الله»، كما يمكن ان تبادر إسرائيل بهدف السعي إلى إزالة الخطر على حدودها على غرار محاولة إزالته من داخل كيانها، ومن دون التقليل من انفلات الجبهة في حال خرجت عن السقف المُعتمد بين الفريقين. وعلى غرار الاحتمالات المفتوحة تبقى سيناريوهات ما بعد الحرب مفتوحة على شتى الخيارات، ويستحيل رسم اي سيناريو قبل انتهاء العمليات العسكرية. ولذلك، فإن الكلام اليوم هو للميدان، ومن الصعب تصوّر مشهد غزة والمنطقة قبل انتهاء الأعمال العسكرية.

ومن الواضح لغاية اليوم ان إيران تعتمد سياسة الحدّ من الخسائر، فلم يعد باستطاعتها فعل اي شيء لحركة «حماس»، لأن الاستنفار العالمي في مواجهتها أكبر من قدرة طهران على التصدي له، ولا بل عليها ان تتقبّل الخسارة وأفضل ما يمكن ان تقوم به هو الحدّ من هذه الخسارة التي وقعت ولم يعد بالإمكان تجنّبها.

والأمر نفسه ينطبق على إطلالة السيد نصرالله، اي الخيار بين السيئ والأسوأ، فلا يمكنه البقاء بعيدا عن جمهوره بعد شهر تقريبا على أحداث 7 تشرين، ولا يمكنه في المقابل ان يعلن الحرب، فكسر حاجز الصمت بالكلام عن الاحتمالات المفتوحة، وهي كذلك، خصوصا أن الحرب يمكن ان تطول ولا يمكنه البقاء بعيدا عن الظهور، فيما اي إطلالة ثانية له ستكون عادية وطبيعية، ولم يكن الحزب بحاجة أصلاً للأفلام الدعائية التي أعطت مفعولا عكسيا وكأنه يتحضّر لإعلان شيء كبير، فيما خطابه لم يخرجه عن المألوف والسقف المعروف، وأي تكبير للحجر يُسيء إلى صورته باعتباره يكبِّر انتظارات الناس التي سرعان ما ستكتشف الصورة على حقيقتها.

والتحدّي الأكبر أمام طهران والحزب يكمن في انطلاق الحرب البرية والمواجهات داخل الأحياء والشوارع وبين الأبنية، وهذا يعني بدء العد العكسي للقضاء على «حماس» داخل غزة، أو إخراجها بعد حين بتسوية سياسية، ولكن لا مؤشرات لغاية اللحظة بإمكانية وقف الأعمال الحربية قبل ان تحقِّق إسرائيل نصراً ميدانياً هي بأمسّ الحاجة إليه بعد صورة ردعها التي سقطت في 7 تشرين.

 

ويبدو انّ إيران استوعَبت حجم الهجمة ضد «حماس» وعدم قدرتها على فعل أي شيء لمؤازرتها، وأقصى ما تريده اليوم الحد من الخسائر، وهذا من دون التقليل من رهانها على الميدان ومفاجآته، ولكن ما تريده هو ان تقف الحرب عند حدود غزة اعتقاداً منها انها مع الوقت بإمكانها ان تستعيد دورها داخل البيئة الفلسطينية، إنما في حال تمدّدت لمواجهة مع «حزب الله» ستكون خسارتها كبرى ولا تعوّض.

والبراغماتية والإيرانية هي نفسها لدى «حزب الله» الذي كان يريد إيقاف حرب تموز 2006 بأيّ ثمن، وعندما توقفت الحرب استعاد مقومات قوته وحال دون تطبيق القرار 1701 منذ اللحظة الأولى، وبالتالي الهدف الإيراني المرحلي ان تنحصر المواجهة مع «حماس» تلافياً لانعكاساتها على الدور الإيراني على مستوى المنطقة، وهذا ما يفسِّر قول السيد نصرالله ان «القرار في العمليات العسكرية هو لدى حركات المقاومة وقياداتها» في محاولة لتحييد إيران من جهة، وتوجيه رسالة من جهة أخرى مفادها انّ وحدة الساحات هي وحدة في المشروع والهدف وليس في التخطيط العسكري.
وانطلاقاً مما ورد أعلاه باستحالة رَسم أي سيناريو لمستقبل المنطقة قبل انتهاء الأعمال العسكرية، فإنه حتى لو اقتصرت الحرب على غزة، فإنّ الكلام عن مكافأة أميركية لإيران مقابل عدم توسيعها رقعة الحرب يستفيد منها «حزب الله» بوصايته على القرار اللبناني هو في غير محله لثلاثة أسباب أساسية:

السبب الأول: كَون طهران لم توسِّع رقعة الحرب خشية من انعكاساتها السلبية عليها في ظل آلة عسكرية إسرائيلية فاقدة لصوابها وإعلان أميركي واضح بأنّ واشنطن ستتكفّل بمواجهة طهران في حال قررت الانخراط في الحرب، ما يؤكد بأنّ عدم انخراطها لم يحصل عن قناعة، إنما بفعل ميزان القوى الذي لا يسمح لها بذلك، وبالتالي لا تستطيع أن تُمنِّن أحداً بعدم انخراطها في الحرب. ولذلك، هذه الورقة غير قابلة للصرف.

السبب الثاني: كَون مَكمن الفارق الأساس بين الرئيس حافظ الأسد مع اجتياح الرئيس صدام حسين للكويت، وبين السيد خامنئي مع عملية 7 تشرين، انه كان بإمكان الأسد عدم الانضمام إلى التحالف الدولي لإخراج الجيش العراقي من الكويت، وقد قبض ثمنَ انضمام وصايته على لبنان، ولكن من دون التقليل من عوامل أخرى أبرزها العداوة بين البعثين والانشغال الدولي في حرب الخليج والتحضير لعملية السلام واليأس من الملف اللبناني بعد إنجاز اتفاق الطائف وحالَ العماد ميشال عون دون تطبيقه، بينما عدم انضمام طهران للحرب سببه خشيتها من ان يتكرّر معها سيناريو صدام في الكويت، وبالتالي كيف يمكن ان تقبض ثمن موقف اتخذته حفاظاً على وضعيتها وبما ينسجم مع مصلحتها، لأنه خلاف ذلك سيعرِّضها لحرب مدمرة أرادت تجنّبها؟

فالمعادلة اليوم ليست بين ما قبضه الأسد بانضمامه إلى التحالف الدولي ضد عراق صدام، وبين ما يمكن ان تقبضه إيران بعدم توسيعها رقعة الحرب إلى جانب «حماس»، إنما المعادلة هي انّ مصير طهران سيكون نفسه مصير بغداد في حال قررت مؤازرة «حماس»، وبالتالي كل منطق المقايضة ساقط على هذا المستوى.

السبب الثالث: كَون حافظ الأسد كان حاجة أميركية للإمساك بالوضع اللبناني عشية عملية سلام بين العرب وإسرائيل تعوِّل عليها واشنطن كثيرا، ومُتكئة على تجربة طويلة معه التزم فيها بالتهدئة الشاملة في الجولان، وبالتالي الضوء الأخضر لإمساكه بالورقة اللبناني لم يكن يقتصر على «cadeau de retour» مقابل انخراطه في التحالف الدولي، إنما كسلفة او دفعة على حساب السلام المرتقب مع تل أبيب والحاجة إلى استقرار الساحة اللبنانية في هذه المرحلة من أجل ان تجري المفاوضات بعيداً عن الساحات الساخنة، فكلِّف الأسد لضبط الوضع اللبناني.

ومن هنا، فإنّ وضع الأسد الأب يختلف عن إيران التي تبيّن لواشنطن ان المشكلة معها لا تنحصر في الملف النووي، إنما هناك مشكلة أساسية تتعلّق بدورها المُزعزع للاستقرار في المنطقة، ويستحيل ان تُمنح مكافأة سياسية في لبنان او غيره، ولا بل ما هو مطروح ان تشكّل حرب غزة مدخلاً لإعادة ترسيم حدود دور إيران وليس تعويمها ومَنحها جوائز ترضية في لبنان وغيره تستفيد منها من أجل مزيد من تعزيز دورها.

فكل منطق المقايضات ساقط ولا أساس له من الصحة، وما حصل مع حافظ الأسد في العام 1990 لن يتكرّر مع السيد الخامنئي ولا مع السيد نصرالله في العام 2023، وإذا كان المجتمع الدولي مثلاً ينأى بنفسه قبل حرب غزة عن الانتخابات الرئاسية في لبنان، فإنه مع هذه الحرب وبعدها لن يتهاون بانتخاب مرشّح لـ»حزب الله»، لا بل انّ حرب غزة وضعت الدور الإيراني تحت المجهر الدولي وبقوة، ويمكن التأكيد بأنّ المدّ الإيراني الذي بدأ مع أحداث 11 أيلول 2001 انتقل إلى الجزر مع حرب غزة في 7 تشرين الأول 2023.