هل انتقلنا من مرحلة تدمير الدولة وإلغاء السياسة، إلى مرحلة تدمير المجتمع وإلغاء الأخلاق؟ يقرأ بعضنا الجرائد صباحاً، ويستمع معظمنا إلى نشرات الأخبار مساء. ننام ليلاً وكل منا يشعر أن في كل خبر وتعليق إخباري نعياً للبنان، دولة ومجتمعاً. حجم كوارث الفساد ينذرنا بالنهاية، نهاية الوطن الكيان؛ نهاية المجتمع الذي صار شعبه موضع تهمة. عندما يصرخ أهل السياسة حول الفساد فإنهم يبرئون أنفسهم سلفاً ويدينون مجتمعهم سلفاً. الفساد موجود في كل مكان، هم أبرياء، إذن الآخرون متهمون. هل نحن مجتمع ضد نفسه؟
في الستينيات كانت مرحلة بناء مؤسسات الدولة على يد الرئيس فؤاد شهاب. عارضناه (عارضوه)، رفعوا شأن الأجهزة الأمنية وتشكل فريق سياسي لدفن منجزاته. ثم حدثت الحرب الأهلية، وكان اتفاق الطائف الذي ميزته الأساسية إخراجنا من الحرب الأهلية. دخل اتفاق الطائف الدستور وانتهت مهمته. لا نتكلم عن تعديل الدستور، وكل الدساتير يجب أن تعدّل حسب الحاجة، لكننا نريد إنهاء اتفاق الطائف، فكأننا نريد عودة الحرب الأهلية. كانت مرحلة التسعينيات للعمل والإنجاز. رمزها الرئيس الشهيد رفيق الحريري. قتلوه، وكل البنى التحتية لا تعمل جيداً، أو هي في خبر كان. مع قتل الرئيس الحريري انتهى عصر الإنجاز، فكأننا نريد فساداً دون إنجاز. بلد ضد نفسه، لا يرى في الإنجاز إمكانية البناء والاستمرار وربما الصعود والنهوض.
ارتأت الطبقة الغنية (الـ1% من الناس، وربما عشر الواحد من الناس) أن الفقر هو المشكلة. عقدت مؤتمراً لذلك. لم يقل لهم أحد أن الغنى أيضاً مشكلة. ربما كان الغنى هو المشكلة التي تسبّب الفساد أو تنجم عنه. الصغار فسادهم على قدر حجمهم، أما الكبار فيتناسب فسادهم مع حجمهم. لم ينتبه المؤتمرون إلى أن سوء التوزيع نفسه ينتج الغنى كما الفقر؛ قطبان لجسم واحد. الخلاص من الفقر يستبطن اعتبار الفقراء مشكلة يجب الخلاص منها؛ فهل يجب الخلاص من الفقراء؟ كان النظام يتخلص منهم بالهجرة، وهذه تنسد أبوابها. صار الفقر مشكلة ليست للنسيان، صار مشكلة تهدد ذوي الأنعام.
يكاد اللبنانيون يعتبرون أن وراء كل ثروة سراً. الأسرار ليست للبحث. بالطبع يصير المثل الأعلى، حتى للفقراء، هو الغنى والثروة. يريد الفقراء أن يكون استهلاكهم شبيهاً بما هو عند الأغنياء. يقتنون الهاتف الجوال الذكي والسيارة بالدين وبما يزيدهم فقرا. والأغنياء يلبسون الجينز، (أحياناً ممزقة عند الركبة) للتظاهر بمشابهتهم للفقراء. التناقض عند الفقراء هو أنهم لا يرفضون الأغنياء لأنهم على ما هم عليه، بل يكرهون أنفسهم لأنهم يعرفون أنهم لن يصيروا أغنياء. ينتابهم القلق لذلك.
تتجاور الطوائف، تقسم المجتمع عمودياً، تلامس كل منها الأخرى، لكنها تبقى بعيدة عنها. جماعات مغلقة أو ما يشبه ذلك. يضاف إليها الآن، ومنذ زمن، جماعات أخرى فلسطينية وسورية وآسيوية وأفريقية. كل من هذه المجموعات «طبقة مغلقة»؛ تتنافس في ما بينها ولا تنافس فقراء الطوائف اللبنانية. هؤلاء سعيدون لأن هناك من هو أدنى منهم في السلم الاجتماعي. تُثار، أو تفتعل، مسألة التوطين: ليس من أجل الحل، بل من أجل أن يشعر الفقراء اللبنانيون أنهم مميزون؛ وأن ميزتهم تأتي من مواجهة الطبقات الأدنى لا من مواجهة الطبقة العليا؛ فكأن هناك تحالفاً سرياً بين الطبقات الغنية والطبقات الفقيرة اللبنانية. تُلغى مطالب الفقراء، ومعها تُلغى السياسة، ولا يبقى للبنانيين إلا الطوائف. زعماء الطوائف حاجة لتدبير وظيفة عمل؛ إذن يجب الدفاع عنهم أو الالتحاق بهم.
تتلاحق أزمات الفساد؛ بالأحرى يتلاحق انكشافها، فكأن في ذلك سياقاً مسبق التنظيم. أهم هذه الأزمات ما يتعلق بالنفايات الصلبة. كل يريد التخلص منها عند غيره، عند جاره، أو أبعد من ذلك مكانياً. رمي النفايات عند الغير، يجعل مصدرها بريئا منها. يرمى الفساد على الغير ويصير مصدره بريئاً منه. تطهير الذات بالإشارة إلى الغير. عند البعض يبدأ الحل، وينتهي، بالفرز عند المصدر، عند الناس، عند المجتمع. يصير المجتمع مداناً. المجتمع الفاسد لا يليق به إلا طبقة عليا حاكمة متحكمة فاسدة. يغيب الحكم عن النقاش، ينسى أمر رئاسة الجمهورية والانتخابات البرلمانية والوزارة الدستورية. تغيب السياسة؛ يغيب شأن إدارة المجتمع.
ما يغيب مع السياسة هو الأخلاق، ومع الأخلاق يغيب تطبيق القانون. تأتي فضيحة الدعارة للتدليل على غياب الأخلاق. وتأتي فضيحة الأجهزة الأمنية للتدليل على نهاية أحكام القانون. بين القانون والأخلاق ارتباط وثيق. فعالية القانون هي عندما يصير اقتناع الناس به نهائياً، أو شبه نهائي، وعندما تصير مخالفة القانون بمثابة مخالفة نظام الأخلاق. فعالية القانون هي عندما يصبح هو الجزء الخارجي للضمير الأخلاقي، بل عندما يصير جزءاً داخلياً من الأخلاق؛ وعندما يصير الانضباط بالقانون طوعياً لا قسرياً. ولا يختلف التطبيق العشوائي للقانون عن عدم تطبيقه.
رؤوس الفساد معروفون. طبقة عليا تريد سلب الناس من الأخلاق بعد أن سلبت من المجتمع كل شيء آخر. التعمية فعل هادف كي لا يرى الناس الأمور على حقيقتها، وكي يعتقد الناس أنهم هم المذنبون وليس وليّ أمرهم. الطائفية وسيلة للتعمية، لكنها إحدى الوسائل، إيهام الناس أن كل شيء في البلد فاسد، ودفعهم إلى الاعتقاد أن ذلك فعل أيديهم هم، هو الوسيلة الأهم. ما نصحو عليه من أخبار وتعليقات، وما ننام بعد سماعه والهم يقتلنا، يوحي بذلك ويكاد يصير حقيقة واقعنا.
يُراد لنا الاعتقاد بانعدام الأخلاق لدى المجتمع كي نستنتج أن فسادهم طبيعي ومقبول