IMLebanon

اتفاقية سايكس ـ بيكو الخريطة العسكرية والدولة الوطنية

لولا (sir) مارك سايكس والمسيو فرنسوا جورج بيكو ماذا كان كثر سيقولون في حال العالم العربي منذ قرن إلى اليوم «سايكس وبيكو» فاوضا ووقَّعا بين العامين 1915 ــ 1916 اتفاقاً سرياً (كشفته روسيا البلشيفية في 1917) كممثليْن لدولتين متحالفتين في الحرب العالمية الأولى لاقتسام أراضي الإمبراطورية العثمانية، في حال انتصر الحليفان في الحرب، ورسما حدوداً لمناطق نفوذ وليس لدول. إنه التوريث الإمبراطوري في زمن الاستعمار. أما التفاصيل، حيث مخبأ الشياطين، فلم يُبت بأمرها إلا بعد انتهاء الحرب، وتحديداً بين العامين 1918 و1922، وهي الفترة التي شهدت تطورات مفصلية: انعقاد مؤتمر السلام في فرنسا وإنشاء عصبة الأمم ونظام الانتداب وتفكك السلطنة العثمانية ودخول الولايات المتحدة على خط التسوية الدولية بطروحات جديدة قدمها الرئيس ويلسون.

كيانات الدول التي نشأت في عشرينيات القرن العشرين كانت نتاج التنافس الفرنسي ــ البريطاني والطموحات السياسية لبعض القادة العرب، وفي مقدمهم الهاشميون، والتحولات في الانتماءات المتداخلة بين المحلي والوطني والقومي لشعوب المنطقة ونخبها، لا سيما في المشرق العربي. لم تنفصل النخب العربية، السياسية والعسكرية، فعلياً عن السلطنة إلا بعد انتهاء الحرب، وهي كانت تطالب بأشكال مختلفة من اللامركزية في إطار السلطنة، وارتبط معظمها فيما بعد بالحركة التي أطلقها الشريف حسين.

وكان لبريطانيا دور حاسم في دعم الهاشميين ومناوئيهم آل سعود في الجزيرة العربية. ففي حين استطاع التحالف السعودي ــ الوهابي أن يُحكم سيطرته ويؤسس المملكة العربية السعودية بحدود فرضتها بريطانيا مع العراق واليمن، فإن الهاشميين اصطدموا بمسائل شائكة في المشرق العربي: مع فرنسا في لبنان وسوريا ومع المشروع الصهيوني في فلسطين. ولم يبقَ سوى الأردن والعراق حيث تم تأسيس دولتين بدعم بريطاني، الأردن بقيادة الملك عبدالله والعراق بقيادة شقيقه الملك فيصل. وفي الحالتين لاقى الحكام الجدد معارضة لا يستهان بها، ضبطتها لندن، خصوصاً في شمال العراق وجنوبه.

بكلام أوضح، لم تنشئ اتفاقية سايكس ــ بيكو دولاً جديدة ولم يتم تقسيم دولة عربية، لم تكن قائمة في الأساس ككيان سياسي أو جغرافي. مشروع الدولة العربية (الذي بدأ مشروع خلافة إسلامية في بعض الأوساط البريطانية) الذي وُعد به الشريف حسين في مراسلات شهيرة مع المسؤولين البريطانيين في مصر في 1915 خضع لتأويلات ومفاوضات بعد الحرب وكانت بريطانيا قد قطعت وعوداً متضاربة للفرنسيين في 1916 وللحركة الصهيونية في 1917.

وكان على كل طرف أن «يقلّع شوكه بيده» بعد انتهاء الحرب، فاحتدم النزاع أولاً بين بريطانيا وفرنسا حول اتفاقية سايكس ــ بيكو، بعدما اعتبرت بريطانيا المتفوقة عسكرياً على فرنسا في المنطقة أنها صاحبة الكلمة الفصل في وضع مضامين جديدة للاتفاقية وليس فرنسا، ومع الهاشميين الذين فاقت طموحاتهم قدراتهم الذاتية، ومع الحركة الصهيونية حيث تضاربت آراء القيادة البريطانية بين لندن وفلسطين ومصر حول مدى الالتزام «بوعد بلفور» وآلية تطبيقه وتداعياته. المشهد السياسي عكس التنافس الحاد بين الحلفاء (بريطانيا وفرنسا وإيطاليا) وحتى روسيا الشيوعية، ومن ثم حول مصير السلطنة ومناطق نفوذها ومنها المشرق العربي (Levant)، بينما الأوضاع كانت واضحة المعالم في مصر ومحسومة في الخليج العربي لصالح بريطانيا.

في زمن سايكس وبيكو كانت المنطقة العربية خريطة عسكرية بالنسبة إلى أصحاب القرار في لندن وباريس. أما اليوم فثمة دول وشعوب ومصالح اقتصادية وإستراتيجية بالغة الأهمية. كما أن فلسطين لم تعد أرضاً لمشروع دولة يهودية بل إسرائيل دولة قائمة بنظامها وقدراتها العسكرية والاقتصادية وتلقى حماية دولية.

استسهال الكلام عن تقسيم الدول وتركيبها في القرن الحادي والعشرين ليس في محله. دولتان كانتا الأكثر جهوزية للتقسيم في السنوات الأخيرة، لبنان والعراق، لا تزالان قائمتين بحدود مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى. خلال سنوات الحرب وصلت الدولة في لبنان إلى الحضيض وبلغت الانقسامات الداخلية والتدخلات الخارجية حدوداً قصوى، وكان بالإمكان تقسيم البلاد، إلا أنه تم اعتماد الخيار الأسهل فتم تسليم لبنان إلى مَن كان الأكثر رغبة ومصلحة وقدرة لإدارة شؤونه، إلى سوريا، بدعم إقليمي ودولي. أما الدولة في العراق فبدأت تتحلل بعد مغامرة صدام حسين في الكويت والحرب لتحرير الكويت، وبعد نحو عقد جاء الغزو الأميركي ليحوّل العراق إلى دويلات مذهبية وإتنية، ما شكل الفرصة التاريخية التي كان ينتظرها الأكراد في شمال العراق منذ عقود لإعلان دولتهم. إلا أن العراق ظل دولة واحدة منهكة ومجتمعاً منقسماً لكن في إطار نظام فدرالي يحفظ وحدة الدولة، أقله في الشكل، وإن هو عملياً نظام مأزوم. وفي سوريا، حيث الحرب مشتعلة، برز الكلام عن التقسيم بعد التفتيت الذي أصاب البلاد، إلا أن التقسيم غير متاح لأسباب عديدة ولأن الدول الكبرى ودول الجوار لا مصلحة لها بذلك على رغم أن إنهاء النزاع غير ممكن في المدى المنظور. دولة واحدة تم تقسيمها في المنطقة، بمعنى أن دولة جديدة نشأت ونالت اعترافاً دولياً، جنوب السودان، وهي حالة خاصة لا تشبه أوضاع دول المشرق العربي لا ماضياً ولا حاضراً.

لكن لا بد من الاعتراف أن لمقولة المؤامرة مؤيدين كثراً في العالم العربي، لا سيما عندما يأتي الكلام بعد فنجان قهوة أو «دق طاولة» فتنكشف أسرار الكون والدول دفعة واحدة ولو للحظات. ونعود أخيراً إلى سايكس وزميله بيكو اللذين يتحملان، بنظر البعض، مسؤولية ما حلّ بالعالم العربي، من إسرائيل إلى «داعش». ولا عجب أن تحمّل معهم المسؤولية، ولو نظرياً، الشاعر أدونيس، إذ يعتبر أن «العربي توجد في مخيلته ثقافة راسخة تؤكد أنه يولد ويكبر ويموت معصوماً عن الخطأ وأن المخطئ دائماً هو الآخر» (من محاضرة أُلقيت منذ أيام في القاهرة). وسيظل سايكس ومعه بيكو على خطأ، بعد أن أدار طيفهما، بحسب البعض، شؤون المنطقة خلال قرن من الزمن حتى بعد ملاقاة ربهما في ربوع الجنة أو في نار جهنم.