لا شكّ أن استذكار اتفاقية «سايكس بيكو» والعودة إلى الظروف التاريخية التي أحاطت بها ودفعت باتجاه إبرامها، لا يُشكل مدعاة فخر أو سعادة للعرب. إلا أن الغوص في بحث علمي منطقي موضوعي حول نتائج الاتفاقية السلبية منها والإيجابية، في ذكرى مرور مئة عام على تكريسها أمراً واقعاً، يبدو ضرورة، في ظلّ ما يُحاك للمنطقة من محاولات جديّة لتقسيم المُقسم.
من هنا، يحمل المؤتمر السنوي لـ «بيت المُستقبل»، الذي يستمر على مدى يومين في بكفيا، عنوان «اتفاقية سايكس – بيكو بعد قرن: نظام جديد لمنطقة الشرق الأوسط؟»، ويُشارك فيه عدد كبير من الباحثين والمفكرين العرب والأجانب. وبحسب المسؤولة الإعلامية للمؤتمر جويل ناصيف فإنه «بعد مرور مئة عام على اتفاقية سايكس بيكو وجدنا أنه من الضروري البحث في نتائجها للاستفادة منها كتجربة كان لها تأثير مباشر على مسار تطور الأحداث إقليمياً»، مشيرةً إلى أن «المشاركين في المؤتمر قادمون من الدول التي كان لها اليدّ في تثبيت دعائم الاتفاقية أي بريطانيا وفرنسا وروسيا وأميركا، والدول التي كانت مسرحاً لتنفيذه أي لبنان وسوريا والعراق والأردن وفلسطين».
رسم «سايكس بيكو» حدود الدمّ بين العرب. أرسى التفاهم «الفرنسي – البريطاني» الخطوط العريضة لمناطق نفوذ الدولتين من دون الدخول في عرض مستقبل الشرق الأوسط على أساسها، بحسب الرئيس السابق أمين الجميل.
يشدد الجميل الذي سيشارك في افتتاح المؤتمر يوم غد الجمعة، على أنه «لا يمكن فهم اتفاقية سايكس بيكو إلا من خلال المؤتمرات التي لحقت بها، وفي طليعتها مؤتمر «سان ريمو» و «سيفر» و «فرساي» و «لوزان». ويؤكد أن «تلك التقسيمات، بغض النظر عن موقفنا منها، أسست للكيانات الموجودة اليوم في منطقة الشرق الأوسط، والتي أثبتت وجودها بحدودها تلك طيلة 100 عام من دون أن تخرج أصوات معارضة لهذا التقسيم بشكل جديّ، وهذا دليل على أنه كان في تلك التقسيمات منطق وتعبير عن واقع اجتماعي ووطني معين».
برأي الجميل «استطاعت الدول بصيغتها الجديدة الصمود أمام الكثير من الإنقلابات والتغيرات، وذلك لأن الحدود لم تكن مصطنعة، بل حرص واضعوها على الحد الأدنى من الانسجام بين مكوناتها، ما عدا العنصر الشاذ المتمثل بدخول اليهود إلى أرض فلسطين»، مشيراً إلى أن «وعد بلفور الذي أعطى الحق للصهاينة بتأسيس الكيان الإسرائيلي داخل الأراضي الفلسطينية مَثّل عنصر اضطراب لا يمكن تجاهله».
وعلى الرغم من التخبط الذي تعيشه المنطقة العربية على وقع الصراعات الطائفية والمذهبية، لا يُبدي الجميل تخوّفاً من إعادة رسم الخرائط الحدودية. يُصر على أن «كل الأبحاث الدولية تُجرى على احتمالات تطبيق اللامركزية الواسعة أو الفدرالية أو الكونفدرالية في دول النزاع، من دون إعادة النظر بحدود الكيانات بحد ذاتها»، عازياً السبب إلى «وجود إدراك مسبق لدى الدول الكبرى مفاده أن تغيير الحدود أو تعديلها هو مشروع لحرب الـ100 عام. لأنه، ببساطة سيتم خلط الحابل بالنابل، وستدخل كل الجماعات بحروب لا تنتهي بين الإثنيات والطوائف والمذاهب والأقليات، ما يعني عملياً الدخول في حالة من عدم الاستقرار إلى ما لا نهاية».
بين العام 1916 و العام 2016، ثلاثة أوجه شبه مشتركة، يفندها الجميل. فبعد مرور 100 عام، يُعيد التاريخ نفسه بوجوه جديدة، وتُحدد مصائر الشعوب على يدّ ثلاثة فرق هي «الأنشط» بين اللاعبين الإقليميين. أولاً، الثنائي «لافرورف – كيري» الشبيه للثنائي «سايكس – بيكو». ففي العام 1916 كان المتحكم بمستقبل المنطقة العربية السياسي الفرنسي فرانسوا بيكو والعقيد البريطاني مارك سايكس، أما اليوم فالساعي إلى لملمة الفوضى في العالم العربي هما وزير الخارجية الأميركية جون كيري ووزير الخارجية الروسية سيرغي لافروف، بدءاً من الأوضاع في سوريا مرورا بلبنان وصولاً إلى العراق واليمن ومصر.
ثانياً، «حُلم» الإمارة الإسلامية الموحدة الذي يتبناه تنظيما «داعش» و «النصرة» شبيه، إلى حدٍ ما، لـحُلم الدولة العربية الإسلامية الكبرى الذي سعى إلى بنائها الشريف حسين بدعم من البريطانيين وفق ما كُشف من مراسلات «حسين – مكماهون». أما ثالثاً، تطور مشروع «وعد بلفور» مع استمرار عمليات التوسع الإسرائيلية وقضم المزيد من المساحات الفلسطينية، خصوصاً مع سياسة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الداعية إلى المزيد من الإستيطان في الضفة الغربية والتوسع في الجولان، من دون أي مراعاة للقوانين الدولية الصادرة عن الأمم المتحدة.
يتوافق المشاركون في المؤتمر مع آراء الجميل حيناً ويختلفون معها حيناً آخر. إذ تُشدد الكاتبة والمؤرخة كارول داغر على أن «المشكلة في العالم العربي تكمن في الإمتناع عن تشغيل الذاكرة واستعادة التاريخ»، مشيرةً إلى أن «الهدف من عقد مؤتمرات في ذكرى مرور 100 عام على اتفاقية سايكس بيكو هو للسؤال عن الإتجاه المقبل لمسار الشعوب العربية وأنظمتها».
وترى داغر أنه «منذ الإعلان عن منح الدول المحتلة استقلالها كان الهدف الوصول إلى بناء دولة عصرية حديثة وفق قواعد احترام الدستور والمؤسسات وضمان حقوق الأفراد، وهذا ما عجزنا عن تحقيقه».
بدوره، يؤكد الباحث المتخصص سامي عون أن «الديناميكية الأولى التي ظهرت في العالم العربي مع انسحاب دول الانتداب أدت إلى نشوب حروب داخل الكيانات بعد فترة وجيزة، ما أضعف المشرق العربي. وبعد مرور 100 عام يتركز البحث حول ما سيبقى من هذه الكيانات»، مشيراً إلى أنه «من المفيد أن نسأل هل كانت المشكلة ناتجة من اتفاق سايكس بيكو أو من سوء إدارة المشكلات داخل الكيانات بطريقة ديموقراطية وعدم التواصل مع الحداثة السياسية وإنتاج ما هو أفضل في التعامل مع التعددية السياسية والطائفية والاثنية وغيرها؟».
ويوضح عون أن «المرحلة التي يمر فيها العالم في غاية الحساسية، فهل نحن نجنح إلى تقسيم المُقسم لاستحالة الصفاء العرقي والمذهبي، والتي ستؤدي إلى نزاعات دموية؟ وإلى أين يذهب الاتجاه التاريخي في القضايا المعلقة، مثل القضية الفلسطينية التي اتُخذت بشأنها الكثير من القرارات وبقيت خارج حيز التنفيذ؟»، مشدداً على «ضرورة القيام بنقد ذاتي، بعيداً عن الجلد غير النافع، لأخطائنا السابقة وتقييم كيفية تفعيل دورنا للإنتقال من حالة المسرح إلى حالة الشريك في صياغة القرار ورسم الوجه الجديد للمنطقة».
من جهته، يعتبر الوزير السابق روجيه ديب أن «المؤتمرات تشكل مدخلاً لطرح الأسئلة حول مستقبل المنطقة العربية، خصوصاً أن الفرق بين المرحلة التي أُقر فيها اتفاق سايكس بيكو والمرحلة التي نعيشها شاسع. ففي السابق تحكمت دولتان في تقرير مصير الشعوب أما الآن فالمتنازعون كُثر في ظل أجواء مشحونة بين تركيا وإيران والسعودية من جهة، وأميركا وروسيا من جهة أخرى».