يتمتع اللبنانيون بطبائع التكيف المدهش مع شتى انواع الازمات لفرط ما عايشوا تعاقب الحروب والصراعات والانقسامات المزمنة فباتوا معتادين التسليم لهذا الواقع الذي يبدو ان لا مرد له ما دامت أي أزمة تتهدد النظام الهش والدولة الضعيفة. ولكن مع حلول اسبوع بدأ بالذكرى العاشرة لنشوء جبهة ٨ آذار ويقفل بالذكرى العاشرة لنشوء قوى ١٤ آذار قد لا يكون ممكنا تجاهل عوارض “إنهاك” تدب في أوصال الطبقة السياسية، الأمر الذي يبرز واقعيا في غرق مختلف الافرقاء اللبنانيين في حلقة مفرغة تراجعت معها سقوف الطموحات السياسية وانخفضت الى حدود قياسية.
نقول ذلك من موقع الرصد للخط البياني الذي يحكم الواقع السياسي منذ نشوء ازمة الفراغ الرئاسي تحديدا التي يصح في هذه الايام “الآذارية” الموصوفة برمزياتها وأدبياتها ان تتخذ معلما قياسيا لسلوكيات القوى السياسية حيال هذه الازمة. منذ بدأت ازمة الفراغ الرئاسي وراحت تفرخ أزمات متعاقبة بتنا نفتقد قوى سياسية “مبتكرة” او خلاقة او مبادرات في الحد الادنى الذي يمكن ان يذهب معه الناس الى الرهان على حركة داخلية تقول ان في لبنان حيوية باقية. الغريب في الامر انه في عز الصراعات القتالية او شبه القتالية سياسياً او أمنياً في حقبات سابقة لم تكن السياسة يتيمة هكذا من المبادرات، على رغم ضرورة التمييز بين القوى المعطّلة للاستحقاق والقوى المحتضنة له تصفع تجربة الفراغ الرئاسي كل الجسم السياسي بوصمة التقاعد والاستسلام للانتظارات المضنية الطويلة وتنبئ بوسط سياسي امعن فيه الترهل والتكلس. نعرف تماما ان تبرير هذا الواقع يرتكز الى مقولات خشبية جاهزة ومعلبة، سواء كان مضمون بعضها محقا او بعضها الآخر مراوغا. ولكن المقصود هنا ليس الفرز بين محق ومداهن بل النظر الى مآل هذا الجسم السياسي الذي يدور مع قواعده في حلقات الفراغ كأن مفهوم الزعامة والحزب والقوى السياسية عموما اضحى مرادفا للتكيف مع الافلاس الشامل.
وإذا كان من جانب ايجابي في هذه المعادلة فهو يأتي من زاوية مكسب سلبي، اي ان بلدا من دون رأس هو فعلا بلد محكوم بالعقم السياسي والدستوري. لم يعد الامر مجرد اصطفاف سياسي وراء واقع معطل للانتخابات الرئاسية وأخر عاجز عن فرض انهاء الازمة مقدار ما يطرح سؤالا بضخامة أزمات لبنان وهو هل تعطلت نهائيا قدرة القوى السياسية لفرط ما دار بعضها على نفسه من جهة او بسبب ارتباطات بعضها الآخر الخارجية من جهة اخرى؟
لقد شكلت الأشهر العشرة من ازمة الفراغ الرئاسي الفشل الأقسى لمجمل القوى الداخلية، وإذا كانت هذه الازمة قيدت عن حق في سجل المعطّلين للنظام الدستوري فإن وجهها الاخر ينبئ بإنهاك وانهيار لا يوفران أحداً.