تمشي بسرعة السيرة الإيرانية الراهنة إلى سويّة التماثل مع نظيرتها السورية، حتى وإن غلب الظنّ بفرادة الحكم الأسدي. واستحالة وجود صنوٍ له قابل أو مستعدّ لتدمير بلده، ونكب ناسه، وتشليع مؤسساته، وتحطيم سيادته، كي لا يترك السلطة لغيره! أو كي «يطمئن» إلى دوام وسريان مقولة الأبد: «نحكمها أو نمحيها»!
لا يمرّ يوم واحد، من دون أن يخرج من طهران كلام يقول بأنّ الحركة الاحتجاجية انتهت! أو «الفتنة» «وُئدت»! و«المؤامرة» سقطت! تماماً مثل الأيام الأولى لثورة السوريين، التي شهدت تهاطلاً مباشراً وبالواسطة (عبر لبنانيين!) لتصريحات تقول بداية إنّه لا توجد تظاهرات في الأساس! وإن ما تعرضه شبكات التلفزة هو فبركة موصوفة على النمط الهوليوودي الأثير! ثمّ أن عدد المتظاهرين (بعد اكتشافهم!) ضئيل ويُعدّ بالمئات! وهم يتنقّلون من منطقة إلى أخرى كي يُقال إن هناك ثورة.. ثمّ بعد نزول الفأس بالرأس ركبت قصة «المؤامرة» الكونية التي أمكن أصحابها البعدين والقريبين، تحريك ملايين الناس وإخراجهم إلى الشوارع! ودفعهم إلى مواجهة الرصاص والبطش والتنكيل والإجرام والتدمير والتهشيل والتهجير… فقط كي ينفّذوا أهداف و«أوامر» ومآرب ومرامي هؤلاء المتآمرين في الخارج!
وكثرة المتشابهات تدلّ على كثرة المشتركات. سوى أنّ القيادة الإيرانية لم تُظهِر بعد ميدانياً، وإن أظهرت ذلك نظرياً، مقدار استعدادها الفعلي والحقيقي للبطش بمن يتحدى سلطتها المطلقة! وما إذا كانت «مستعدة» لسفك دماء الناس مثلما فعل الأسد، ومثلما ساعدته هي على ذلك بالغالي والنفيس! باعتبار أنّ القياس لم يكتمل بعد! وقتل أو المساعدة في تدمير دول ومجتمعات عربية وإسلامية أكثرية، يختلف عن التدمير الذاتي الانتحاري في كل حال!.. ثمّ باعتبار (وافتراض) أنّ النظام الجمهوري الراهن الذي قام على أنقاض نظام الشاه، لا يمكن أن يكون أقلّ رحمة بأهل بلده عمّا كان عليه السلف الإمبراطوري الموصوف ببطشه وديكتاتوريته! والذي كما هو معروف وموثّق، آثر في اللحظة الأخيرة والحاسمة، أن يذهب هو وتبقى إيران! وأن ينهار حكمه ولا تنهار الدولة ومؤسساتها وجيشها! وأن يرحل مع عائلته وحاشيته بدلاً من أن «يرحّل» ملايين الإيرانيين الرافضين لدوام حكمه! وأن تُدمَّر أركان حكمه وسلالته بدلاً من أن تُدمّر المدن والحواضر الإيرانية على رؤوس أهلها!
لكن تحت ذلك القياس، ودونه، تتصرّف القيادة الإيرانية بهلع تكثر ظواهره. وليس أوّلها سوى «التشديد» على مفردة «التآمر» الخارجي. ثم الإمعان في نكران واقع الحال التظاهري المتكرر ليليّاً في أكثر من مدينة شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً. ثمّ تظهير القوة بغير أدواتها العسكرية والأمنية و«الثورية» من خلال التظاهرات النهارية المؤيّدة! ثم الركّ على تحميل مسؤولية الأسباب الدافعة إلى التبرّم والغضب على السلطات التفنيذية الرسمية برغم «تثبيت» مقولة التآمر الخارجي!
على أنّ واحدة من أبرز (وأخطر) مقوّمات الهلع النظامي الراهن، هو قرار منع تدريس اللغة الإنكليزية في المرحلة الابتدائية باعتبارها مظهراً من مظاهر «الغزو الثقافي»! أي بعد أربعين عاماً على قيام «الثورة الإسلامية» وسريان طقوسها التعبويّة وثقافتها وقيمها ولغتها ومؤسساتها، في كل تلابيب حياة الإيرانيين، وبعد كلّ ذلك «الجهد» لتصدير تلك البضاعة برمّتها إلى الخارج أينما أمكن ذلك وبكل طريقة ممكنة وبما يمكن معاينته على امتداد الخريطة من اليمن إلى سوريا إلى لبنان مروراً بالعراق والبحرين ودول الخليج العربي القريبة وبعض دول المغرب العربي البعيدة.. بعد ذلك كلّه، يتبيّن أنّ نظام الجمهورية هذا يخشى على عقول الناشئة في بلده من «غزو ثقافي» لا سبيل لتسلّله سوى من خلال تعلّم اللغة الإنكليزية!
.. يستعير في مطالع الألفية الثالثة، أبرز «أسلحة» القوميين العرب في ستينات وسبعينات القرن الماضي، حيث كان «تعريب» المناهج التعليمية شعاراً نضالياً لم ينتبه أصحابه، (أو لم يخجلوا) من قدر الغباء الكامن فيه! وهو الذي لم يغيّر من مآلات الكارثة المزدوجة التي انتهت إليها نضالاتهم تلك: تحكيم الاستبداد ومنع قيام دول القانون والمؤسسات والتنمية داخلياً، والعجز عن «تحرير» شبر من الأرض المحتلة أو التصدي لـِ«مؤامرات» الأعداء الكثر خارجياً!
معضلتهم كبيرة، أهل النظام الإيراني!