IMLebanon

سوريا… وخلطٌ للحابل بالنابل

ما يسود العالم في هذه الأيام يخلط الحابل بالنابل، وفي الوقت الذي تمتلئ الأجواء بأحاديث السعي إلى تلطيف القتال وتخفيف وطأته تمهيدا لإرساء منطقة الشرق الأوسط، وفي صلبها القضية السورية المأساوية، على مشارف الحلول السياسية، وفي الوقت الذي تبذل كل من روسيا وتركيا جهودا كبيرة لتحقيق هذه الغاية، يستمر النظام السوري وهو يتباهى «بنصره» المزعوم في حلب، وحربه على مناطق أخرى مدفوعا ومصحوبا بحليفه الإيراني ولواحقه، والمستقتل على إرساء وجوده الإقتحامي في هذه المنطقة التي لا يربطها به أي رابط قومي أو وطني أو حدودي، باستثناء نثرات من المزاعم حول نقاط مذهبية محصورة ومحدودة، وهو اليوم يبني عليها قصورا من الأوهام والأحلام، وطموحات استعمارية يحشد لها الحشود المذهبية المستوردة من كل حدب وصوب. وفي هذا الخضم المستمرّ في الإشتعال وفي عمليات «ترانسفير» للمواطنين السوريين إلى بلاد الله الواسعة ونقلهم إلى الأرجاء السورية «غير المفيدة»، تتبدل المواقع والمواقف، وتنقلب التحالفات الإقليمية والدولية رأسا على عقب، وترسّخ روسيا مواقعها «المفيدة لها» في الأرض السورية، وتبني القواعد الجوّية والمرافئ العسكرية، وعينها عبر كلّ ذلك على النفط والغاز السوريين وخزين سوريا منهما يملأ أعماق الأراضي والشواطيء، كما يتلهّف بوتين، إلى القيام بإعادة إعمار ما هدّمه مع سواه في هذا البلد المنكوب، أمّا تركيا المصدومة بتحدّياتها الداخلية، بدءا من فتح الله غولان المتهم بتنظيم محاولة الإنقلاب الفاشلة، مرورا بحربها مع الأكراد وبمواجهاتها مع داعش في أهم المدن التركية ملحقة بها خسائر بشرية ومادية غير مسبوقة في حجمها وفي أثرها، دون أن ننسى عملية اغتيال السفير الروسي في قلب العاصمة التركية، وعملية «رأس السنة» في اسطنبول التي طاولنا منها في لبنان كثير من الشرر والشرور من خلال الضحايا اللبنانيين الذي جرّهم القدر القاسي إلى ذلك الملهى الليلي المميت، الأمر الذي أدّى بمجمله، إلى تبيان حجم التحديّات الداخلية المعقدة التي يعاني منها الحكم التركي. وبما أن روسيا قد حدّدت مصالحها وأهدافها بدقة وعنجهية حاولت من خلالها استعادة أهميتها وأدوارها على المدى الدولي، فإننا بتنا أمام الحصيلتين التاليتين: في الحصيلة الروسية، حدّد بوتين أهدافه وهو قام بدوره العسكري بكلّ دمويته وهمجيته، وأوصل «حلب» إلى ما وصلت إليه، وهو يسعى اليوم، «إن صدقت مساعيه ومحاولاته» إلى إيقاف نزيفه العسكري والإقتصادي نتيجة لهذه الحرب القذرة التي ساهم في خلطِها ضمن الذرائع الإرهابية، زاعما أن القضاء على الإرهاب، هو هدفه، ومرسّخا في الوقت نفسه ما أمكنه من دعائم النظام السوري المتبقية، إستكمالا لتأمين الحمايات المناسبة لأطماعه وطموحاته.

في الحصيلة التركية، تبين أن أهم ما كانت تطمح إليه تركيا في هذه المنطقة يتمثل في:

أ) إستعادة أحلامها المرتبطة بتاريخها العثماني وبالخلافة العثمانية التي استمرّت على مدى قرون من الزمن، حققت لها مجدا لا زالت تضمر له كل الإفتخار وتحلم باستعادة سلطانه ولو متمثلا ببعض جوانبه السياسية والإقتصادية والسياحية، وربما كان أردوغان متأصّلا في هذه الرغبة – الحلم، فأسس لها سلسلة من المواقف بدأها بجملة منها موجهة ضد اسرائيل فقامت ما بين بلديهما مواجهات مختلفة كان أبرز ما فيها الطابع الإعلامي، ولكن المصالح التركية عادت إلى البروز، وعادت معها العلاقات ما بين البلدين إلى طبيعتها.

ب) تبين أن تحركات الأكراد في ومن حول تركيا ظهرت أخطارها ومطامحها الإستقلالية وتمثلت بأعمال إرهابية متمادية، وبالتالي تبين أن إقامة المنطقة العازلة على بعض من الأراضي المتلاصقة مع سوريا، كانت هدفا أساسيا جنّدت له كثيرا من الجهود والإستهدافات، وهكذا استدارت تركيا شيئا فشيئا، متفرّغة إلى شؤونها وشجونها وأوضاعها الأمنية الداخلية.

ج) وبعد تطورات تحوّلية معروفة، إستعادت فيها تركيا سلاسة علاقاتها مع روسيا، تلاقت مصالح البلدين على وضعيات جديدة زادت من تأزيم علاقاتها مع الدول الغربية ومع حلف شمالي الأطلسي ومع الولايات المتحدة، وتوصلت مع روسيا إلى ما أُسمِى باتفاقية الهدنة الشاملة في سوريا مقدّمةً لحل سياسي ما، ووُضِعَ «الشريك» الإيراني خارج تفاصيل هذا الإتفاق، ولئن أدّى كل ذلك إلى إنهاء وضعية حلب بعد أن سحب الجانب التركي قواته المساندة للثورة السورية من أتونها، وكان واضحا أن إيران لم ترتح إلى ما تم من توافقات بعضها كان من «خلف ظهرها»، فاستمرّ القتال في أماكن عديدة وقد مر على إعلان اتفاق الهدنة ما يزيد على العشرة أيام، والدلائل القائمة تشير إلى مواجهات مستمرة ما بين فريقين، قرّبت ما بينهما المصالح والإستهدافات الحقيقية، وداخلتهما بذور الإختلاف والتباعد نتيجة لما استجدّ على كل منهما من ظروف وتطورات.

وبالرغم من بعض التفاؤل بأن حلاً ما للمأساة السورية قد بدأ طريقه الطويل نحو التحقق، إلاّ أن هذه المأساة ما زالت مستمرة، وما زالت جملةٌ من الألاعيب تُمارس على الساحة نفسها وما زال السعي قائما لتحقيق مزيد من المكاسب لكل الكواسر المستمرّة بعملية النهش القائمة.

إنه الضباب الشديد يحيط بالمستقبل السوري كلّه، بانتظار صحوٍ ما للأحوال الأمنية، وصحوة ما للضمائر التي داخلها التحجّر، وعودة ما إلى دولة سليمة معافاة من محاولات التقسيم والتقاسم، إسمها سوريا، ولقبها، قلب العروبة النابض.