نزْف العملة الصعبة يُعالَج بـ “رشوش” الباقي من الاحتياطي
نشطت في الآونة الاخيرة عملية تحويل الليرة السورية الى دولار على الاراضي اللبنانية
تعدّدت طرق “تحويل” العملة الصعبة إلى سوريا والنتيجة واحدة، لا دولار في لبنان. حجم التداخل الكبير بين الاقتصاديين غير المتكافئين، يجعل الكفة الراجحة تميل دائماً لمصلحة الاقتصاد السوري، وإن “طبشت” كفة الميزان التجاري لصالح لبنان في فترات عديدة. بلوى “وحدة المسار والمصير”، ظهّرتها الازمة الاقتصادية التي تضرب البلدين بأبشع صورها. فعلى وقع حصار النظام الأسدي الخانق والتخوف من “قيصر”، تحوّل الاقتصاد الأكبر الى “هوفر” تشفط الدولار… شرعياً.
تنقسم عمليات تحويل الدولار إلى سوريا إلى شقين: شق غير شرعي يتمثل في تهريب مادتي المازوت والطحين، اللتين يوفر مصرف لبنان 85 في المئة من قيمتهما على سعر صرف 1500 ليرة الرسمي. وبحسب الدراسات، فإن هذه العملية تكلف الاقتصاد اللبناني أكثر من 400 مليون دولار من أصل احتياطي قابل للاستعمال لم يعد يتجاوز الـ 3 مليارات دولار في أحسن الاحوال.
الحوالات الشرعية
أما الشق الثاني فهو شرعي ويتمثل في أمرين: الاول، هو تحويلات العمالة السورية المقيمة. وقد قدر المجلس النرويجي للاجئين نسبة هذه الحوالات في العام 2015 بحوالى 17% من إجمالي الحوالات إلى سوريا، ما يجعل لبنان ثاني أكبر مصدر للحوالات بعد السعودية. وفي حسبة بسيطة فان الحوالات اليومية من لبنان الى سوريا كانت تقّدر قبل العام 2011 بحوالى 6 ملايين دولار، على اساس وجود 300 ألف عامل بمعدل دخل وسطي يقدر بـ 20 دولاراً يومياً. أما اليوم ومع وجود نحو 1.5 مليون لاجئ فإن نسب العمالة ارتفعت إلى ما لا يقل عن 800 ألف، يحوّلون أكثر من 60 في المئة من دخلهم إلى سوريا، أو يحولونه إلى الدولار لحمله معهم الى سوريا عند المغادرة. هذا الواقع يرفع طلب المقيمين السوريين في السوق السوداء على الدولار بشكل كبير.
أما الثاني، فهو الطلب التجاري. فمثلهم مثل كل المودعين تحولت أموال الأفراد والمستثمرين ورجال الأعمال السوريين، المقدرة بحسب “المرصد العمالي للدراسات والبحوث” بنحو 50 مليار دولار إلى “لولار”. ولم يبق أمامهم إلا خياران، إما سحبها بالليرة اللبنانية وتحويلها إلى الدولار في السوق السوداء، وإما شراء البضائع من الاسواق الداخلية عبر الدفع الالكتروني أو بالليرة. وفي كلتا الحالتين ترفع هذه العملية الطلب على الدولار النقدي لتحويله الى سوريا. النزف المستمر
عضو هيئة مكتب المجلس الإقتصادي والإجتماعي د. أنيس أبو دياب يرى ان “الطلب السوري “الشرعي” على الدولار في لبنان يعتبر واحداً من الاسباب المباشرة لارتفاع سعر الصرف. فمراقبة التطورات الاخيرة تُظهر بوضوح كيف ان سعر الدولار يبدأ بالارتفاع أولاً في المناطق البقاعية، حيث تنتشر محلات الصيرفة في شتورة ومجدل عنجر وغيرها من المناطق المحاذية لسوريا، وينتشر كالنار في الهشيم عند بقية الصيارفة على طول الوطن وعرضه، وكله لمصلحة التجار السوريين”.
هذا الواقع يترافق مع شح هائل في عرض الدولار وارتفاع الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية إلى معدلات غير مسبوقة. فتعاميم مصرف لبنان، وتحديداً منها 148 و151، التي تسمح بتحويل الدولار الاميركي في المصارف إلى الليرة على سعر صرف 3000 بدلاً من 1500. ودفع الاموال المحولة الكترونياً بالليرة اللبنانية على سعر أصبح 3600 ليرة. والاستمرار في طباعة العملة لتوفير الاحتياجات الداخلية… عوامل دفعت بالكتلة النقدية بالليرة اللبنانية الى التضخم “من 12 الف مليار ليرة في شباط العام 2019 إلى حدود 21 الف مليار ليرة حالياً”، يقول أبو دياب. “جزء كبير من هذه الكتلة النقدية يستخدم لشراء الدولار سواء للاكتناز أو لتحويله الى الداخل السوري”.
إذا كان تحويل الليرة إلى الدولار أمراً طبيعياً، فانه من غير الطبيعي مبادلة الليرة السورية بالدولار على الاراضي اللبنانية. وهذا ما يحدث بشكل مفرط أخيراً. فقسم كبير من الصيارفة اللبنانيين والسوريين يعملون في لبنان على تأمين الدولار النقدي للتجار السوريين، وذلك بعد زيادة الضغط ومنع التداول في العملات الاجنبية في سوريا تحت طائلة الحبس والغرامات المرتفعة.
تدخل “المركزي”
بدلاً من ان “تكحّلها” الحكومة باتخاذ اجراءات لوقف النزيف “عَمَتها” بالضغط على مصرف لبنان لضخ الدولار في الأسواق. وبغض النظر عما إذا كانت “هذه الضغوط ستقدم أو تؤخر شيئاً، لانها محض شعبوية ولا ترتكز على أي مقاربة منطقية”، برأي منسق الإدارة السياسية في حزب “الكتلة الوطنية” أمين عيسى، فانه “لو ضخ المصرف المركزي 20 مليار دولار دفعة واحدة، سوف تختفي في غضون يوم واحد بسبب انعدام الثقة”. وعليه فان الحل من المستحيل ان يكون ما زال نقدياً، بل أصبح من وجهة نظر عيسى “سياسياً”، يرتبط بمقدار ما تستطيع السلطة ان تقدمه من اصلاحات جدية وجذرية تعيد الثقة بالدولة اللبنانية. وإلا فان ما يحدث لا يتعدى كونه ذراً للرماد في العيون.
المبلغ الذي يحكى ان المركزي سيتدخل به هو 30 مليون دولار لمدة أسبوع، على اعتبار ان حاجة لبنان للاستيراد تقدر بنحو 5 الى 6 ملايين دولار في اليوم الواحد. أما الآلية فستكون عبر فتح المركزي السقوف للصرافين لسحب الدولار بالشروط التي وضعها. لكن “هل البنكنوت متوفر في لبنان؟ واذا كان مبلغ 30 مليون دولار من السهل تأمينه من التحويلات الالكترونية، فهل يستطيع المركزي ضخ 1.56 مليار دولار على مدار الاسابيع الـ 52؟”، أبو دياب يجيب بالنفي. “فأرصدة المصرف المركزي التي يتكلم عنها الحاكم والتي تقدر برأيه بـ 21 مليار دولار موجودة في الولايات المتحدة. فهل تفرج عنها أميركا لمصلحة حكومة تمعن في نقل الصراع الى مراحل أكثر حدة، وتتحدى الكلّ في التعيينات الادارية وتوقف مرسوم التشكيلات القضائية ولا تبدأ جدياً في الاصلاحات؟”.
كل المعطيات تؤشر بحسب الخبراء إلى صيف ملتهب. وهو ما يحتم علينا البدء باتخاذ تدابير غير تقليدية، كاستبدال الدعم الذي يهرب جزء كبير منه الى سوريا، بإعانات مباشرة الى الأسر او القطاعات المحتاجة، الكف عن اتباع سياسة النعامة واخراج الرأس من الرمال، والبدء جدياً بالاصلاحات بما يعزز ثقة الداخل والخارج على حد سواء.