تختزل مأساتا سوريا ولبنان حكاية رجل يعيش خارج التاريخ والجغرافيا لم يدرك في العام 2005 النتائج التي ستترتب على اغتيال رفيق الحريري ورفاقه يوم الرابع عشر شباط – فبراير من ذلك العام. يدفع سوريا ولبنان حاليا ثمن اغتيال رفيق الحريري.
إن دلّ مرور عشر سنوات على الثورة الشعبيّة في سوريا على شيء، فهو يدلّ على وجود رغبة لدى بشّار الأسد في الذهاب الى النهاية في تفتيت سوريا ومعها لبنان. ليس إصراره على البقاء في موقع رئيس الجمهورية سوى دليل على عجز عن استيعاب ما الذي حلّ بسوريا في عشر سنوات، وكيف ان اغتيال رفيق الحريري مهْد لذلك التحوّل، بل كان منعطفا وبمثابة الطريق الأقصر اليه.
غطّى النظام السوري الجريمة من منطلق يؤكّد التقاء الجهل والحقد والعنجهية لديه من جهة والهرب من ازمته الداخليّة من جهة اخرى. كان افضل من عبّر عن ذلك اميل لحّود، رئيس الجمهورية اللبنانية وقتذاك، الذي دعا الى تنظيف مسرح الجريمة «كي تتمكن الناس من الانصراف الى اعمالها» واصفا ما حدث بانّه «رذالة». الأكيد ان اميل لحّود استند الى حسابات بائسة لدى الذين اوصلوه الى رئاسة الجمهورية. كانت هذه الحسابات تقوم على ان شخصيات لبنانية كثيرة اغتيلت منذ العام 1977، بدءا بكمال جنبلاط ،ولم يحصل شيء… بل وكأن شيئا لم يكن.
لم يتغيّر شيء في سوريا، لا بعد اغتيال رفيق الحريري ولا بعد الثورة الشعبية التي صار عمرها اليوم عشر سنوات. هناك نظام لا يريد ان يتعلّم من الاحداث. هذا كل ما في الامر. هناك بكل بساطة نظام يعتقد انّ مهمته الانتهاء من سوريا. وهذا ما ينفّذ بالفعل على ارض الواقع تحت شعار «الأسد او نحرق البلد». ليس مهمّا احتراق البلد الواقع تحت خمسة احتلالات (الإيراني والروسي والأميركي والتركي والإسرائيلي). المهمّ بقاء بشّار الأسد في دمشق… بغض النظر عمّا يحل بسوريا. يبدو واضحا ان النظام لا يزال قائما لانّ هناك مهمّة لا تزال مطلوبة منه، هي مهمّة الانتهاء من سوريا.
اندلعت الثورة السورية في مثل هذه الايّام قبل عشر سنوات. كانت ثورة طبيعية ومتوقعة لشعب حرم من ابسط حقوقه طوال سنوات عديدة. عاش هذا الشعب منذ الانقلاب البعثي في الثامن من آذار 1963 ثمّ منذ تولّي الضباط العلويين السلطة في 23 شباط 1966 في مواجهة نظام يؤمن بإلغاء الآخر. بعد الانقلاب الذي نفّذه حافظ الأسد اخذت توجهات النظام بعدا جديدا. لم يعد حافظ الأسد مهتمّا فقط بإلغاء أي معارضة داخلية عن طريق القمع، على طريقة مجزرة حماة. قرّر، خصوصا بعد حرب تشرين في 1973، وهي حرب اوجدت شرعية شكلية لنظامه، إيجاد موقع إقليمي لسوريا ودور لها خارج حدودها. عمل من اجل ذلك في ظلّ سياسة اللاحرب واللاسلم مع اسرائيل، وهي سياسة في أساسها بقاء جبهة الجولان صامتة من جهة والسعي الى الإمساك الورقة الفلسطينية امساكا محكما عن طريق وضع اليد على لبنان من جهة اخرى.
تخلّى بشّار الأسد، الذي ورث سوريا في العام 2000، عن كلّ التوازنات الدقيقة التي عرف والده كيف التحرّك في اطارها. لم يستوعب في ايّ وقت انّ رفيق الحريري ضمانة لسوريا ولبنان في الوقت ذاته ولامكان تطورهما وازدهارهما. لعلّ اهمّ ما عجز عن استيعابه خطورة الدخول في اللعبة الإيرانية التي أوصلت سوريا الى ما وصلت اليه بعدما اعتبر النظام القائم في طهران انّ عليه المحافظة على النظام الاقلّوي في دمشق بايّ ثمن كان.
يدفع سوريا ولبنان حاليا ثمن وصول بشّار الأسد الى السلطة. يدفع البلدان اللذان تحوّلا الى دولتين فاشلتين ثمن السقوط في الفخّ الإيراني ووراثة ايران لسوريا في لبنان بعد 2005 بعد اغتيال رفيق الحريري.
لا شكّ ان حافظ الأسد اسّس عمليا للعلاقة مع ايران، من منطلق مذهبي اوّلا، ولعب دورا في تمكين «الحرس الثوري» من دخول الأراضي اللبنانية في العام 1982، لكنّ ما لا مفرّ من الاعتراف به ايضا انّه حافظ على علاقات مع العرب، خصوصا مع المملكة العربيّة السعوديّة. حافظ على هذه العلاقات في عزّ دعمه لإيران في حربها مع العراق بين 1980 و 1988. كانت حساباته دقيقة الى درجة أنّه دفع معمّر القذافي الى ارسال شحنة صواريخ الى ايران، حتّى لا يقال ان بغداد قُصفت بصواريخ أرسلتها سوريا الى «الجمهورية الاسلاميّة».
لم يكن تفجير رفيق الحريري ورفاقه، على رأسهم باسل فليحان، جريمة لا تغتفر فحسب، بل أنّ الامر يتعلّق ايضا بفكر عقيم لا يدرك معنى ان يكون القرار في سوريا، وبالتالي في لبنان، قرار ايران. لا يدري بشّار الاسد انّه لم يعد من السهل اقتلاع ايران لا من سوريا ولا من لبنان. لعلّ اكثر ما لا يدركه ان «الجمهورية الاسلاميّة» ليست جمعية خيرية وانّ استثمارها في بقاء النظام يعني ان هناك ثمنا لا بدّ لسوريا من دفعه.
كان بشّار الأسد في العام 2000 امام خيارين. الخيار الإيراني وخيار الانفتاح على العرب والعالم. ابى الّا ان يكون اسير ايران، أي اسير لعبة لا افق لها. يسعى الى خوض انتخابات رئاسية، مزوّرة سلفا، من دون ان يسأل نفسه ولو مرّة واحدة ما العمل بالدمار الذي لحق بسوريا حيث لم يبق فيها حجر على آخر في مدن وبلدات كثيرة. إنّها مرحلة لم يعد فيها من يعيد بناء سوريا مثلما فعل رفيق الحريري في الماضي الذي أعاد بناء وسط بيروت وجزءا كبيرا من البنية التحتيّة اللبنانية وساعد في تطوير سوريا. ما العمل مع اشخاص لا يعرفون الفارق بين الهدم والبناء؟ بين ثقافة الحياة وثقافة الموت؟