تشكيل حكومة العهد الأولى لم يكن سوى محاكاةً لنموذج إنهاء الشغور الرئاسي. يتشابه الاستحقاقان الرئاسي والحكومي بأحادية الخيارات وباستحواذ فريق الممانعة على الكلمة الفصل. «هذه الحقيبة لهذا الفريق… أو لا حكومة» كما سبق في مرحلة الشغور الرئاسي «هذا هو المرشح أو لا رئيس». لا ضرورة لإعادة التذكير بالمسار التنازلي للصيّغ الحكومية بدءاً من عدد الحقائب إلى نوعيتها وانتهاءً بتضخيم حجم مكوّنات أو إشراك مكوّنات تفتقر إلى سعة التمثيل المطلوب. تذكّرنا التشكيلة الحكومية بحكومات ما قبل 2005 وباللوائح الانتخابية في الفترة عينها التي ضمّت أكثر من وديعة على مستوى الترشح للنيابة أو طالبي التوزير.
البعض قال انّها «حكومة حلب» في إشارة الى ربط التشكيلة بميزان القوى في حلب، ربما من الواقعية القول انّها «حكومة حلب» لجهة تناقض وتداخل الانتماءات والولاءات والأهداف ضمن فرقائها المتباعدين الى أبعد الحدود. في حلب أكثر من معارضة، معتدلة وإسلامية ومتطرفة، وفي كلٍ منها مواطنون وحلفاء إقليميون غبّ الطلب لكلّ منهم أولوياته. في حلب أيضاً معسكر آخر يضمّ قوات حكومية وحلفاء إقليميين ودوليين غبّ الطلب لكلّ منهم أيضاً أهدافه وارتباطاته. في حلب شبكة معقّدة من التحالفات تتوه فيها مصالح السوريين والكرد والإيرانيين والروس والأتراك، ويختلط فيها الصراع على النفط والغاز بصراع الأمبراطوريات الفارسية والتركية والروسية على النفوذ والممرات المائية. في حلب أكثر من ثأر تاريخي لا زال يستقر في وعي ولا وعي كلٍ من المتصارعين حيث تبقى الإيديولوجيات الدينية وأحلام وهواجس الأقليات هي الوسيلة المُتاحة للاستنفار وتأجيج الصراعات.
حكومتنا العتيدة تستبطن أكثر من إشكالية وأكثر من اشتباك بين مكوّناتها حول أكثر من ملف إقليمي ومحلي، إصلاحي وخدماتي وسواهما، فإذا التقت مكوّنات أحد فرقائها على قانون الانتخابات فهم لن يتفقوا في النفط أو الكهرباء وإذا التقوا في التعيينات الأمنية فهم لن يتفقوا في ملف النفايات أو في معالجة المعابر غير الشرعية. الخلفيات نابعة كذلك من تحالفات وولاءات محلية وإقليمية وتتخذ طابعاً مذهبياً أحياناً أو قلقاً على مستقبل المسيحيين والأقليات الأخرى أحياناً أخرى. إنّ احترام ذاكرة اللبنانيين يقضي بأن نعترف بأنّ هذه الخلافات تمتّ إلى مصالح شخصية ومناطقية وتخفي الكثير من عمليات الفساد والإثراء غير المشروع وتجاوز حدّ السلطة.
يبقى أنّ نقول لبعض اللبنانيين، سياسيين ومواطنين، الذين ربما استنهضت مخاوفهم بعض الأسماء أو بعض المكوّنات الحكومية فعادت بهم الذاكرة إلى سنوات الوصاية. إنّ عهد الوصاية ولّى إلى غير رجعة، وسوريا الأمس لم تعدّ موجودة ولن تُجدي دعوة رئيسها في إطلالته الأخيرة بأنّه «لا يمكن للبنان أن يكون بمنأى عن الحرائق التي تشتعل حوله وأن يتبنى سياسة اللاسياسة أو ما سُميّت سياسة النأي بالنفس» وأنّ حلب ستغيّر مجرى المعركة كلياً في كلّ سوريا، وأنّ استعادتها تعني فشل المشروع الخارجي سواء كان إقليمياً أم غربياً، وأنّه لا يستبعد حصول مواجهة عسكرية مع تركيا……»، لهؤلاء نقول إنّ سوريا تغيّرت، طبعاً ليس لأنّها أصبحت دولة ديمقراطية، فللأسف لم يُجدِ حراك شعبها في بلوغ الحرية. لقد تحوّلت سوريا إلى دولة خارج سياقها العربي. سوريا اليوم بخلاف ما قال رئيسها عن فشل المشروعين الإقليمي والغربي، سوريا في عين العاصفة وهي في قلب المشروعين الغربي والإقليمي، بل هي في قلب كل المشاريع وموطئ قدم كل الجيوش. لقد أضحت سوريا دولة اللاقرار. وقف إطلاق النار في حلب يتمّ بقرار تركي روسي لا علاقة للسوريين من المعارضة أو من النظام به. مجلس الأمن اتّخذ بالأمس قراراً بنشر مراقبين في حلب للإشراف على تنفيذ الاتفاق الروسي التركي دون العودة إلى الحكومة السورية. ممثل روسيا في مجلس الأمن يقول أنّ اتّفاق وقف النار سيشمل كامل الأراضي السورية بخلاف الحروب الدونكيشوتية التي تكلم عنها الرئيس السوري، ويضيف الرئيس بوتين من اليابان أنّ جولة المفاوضات المقبلة بين مختلف أطراف المعارضة والنظام ستتم في كازاخستان.
تجربة لبنان ما بعد الحرب الأهلية لا زالت ماثلة في أذهان اللبنانيين فهم يدركون صعوبة استقلالية القرار الوطني في وطنٍ مزّقت الحرب اقتصاده وهجّرت أهله. وقد تكون سوريا بحكم النفوذ المتوزّع على جغرافيتها الجديدة الأضعف قدرة على التّدخل بالشأن اللبناني.
طبعاً ما قبل حلب ليس كما بعدها، وسوريا ما بعد حلب هي بالتأكيد ليست كسوريا ما قبل 2005.
العميد الركن خالد حماده
مدير المنتدى الإقليمي للدراسات والإستشارات