لا شك في أن «النداء» الذي وجهه الأمين العام الأسبق للجامعة العربية عمرو موسى، بشأن هضبة الجولان السورية المحتلة دافعه وطني وقومي، وأن تغيير الوضعية القانونية لها والاعتراف بضمها إلى إسرائيل في ظل الوجود الروسي الراهن في هذا البلد العربي ينطوي ليس على المساس بمصداقية السياسات الروسية في الشرق الأوسط، وعلى سمعة هذا البلد في العالم العربي وفقط، لا بل إنه يعد أمراً فاضحاً وعلى غرار ما كان فعله الاتحاد السوفياتي الذي كان قد وقف إلى جانب الولايات المتحدة في إقامة الدولة الإسرائيلية على جزء من فلسطين في عام 1948.
وحقيقةً ومع كل الثقة بهذا الرجل العروبي، فإنني لا أعتقد أن روسيا الاتحادية ستقْدم على مثل هذه الخطوة فهي أولاً صاحبة مصالح كثيرة، في معظم الدول العربية، وثانياً أنها لا تزال تحتفظ بالعلاقات نفسها وإياها مع الدول الإسلامية التابعة لها وبالمقدار نفسه الذي كانت تشكله هذه الدول للاتحاد السوفياتي.
إن المؤكد أن عمرو موسى، هذا السياسي الكبير والفذ، يعرف أن هذا النظام البائس الذي أوصل سوريا إلى ما وصلت إليه من انهيار وتمزق ومن احتلالات أجنبية كثيرة من بينها هذا الاحتلال الإسرائيلي، بالطبع هو الذي تغاضى عن كل هذه الاحتلالات ما دام أنها لمصلحته ومصلحة نظامه والتركيز وإنْ شكلياً واستعراضياً على احتلال العدو الصهيوني للهضبة السورية، كأن هناك فرقاً بين احتلال واحتلال، وكأن الإيرانيين لم ينشئوا مستوطنات مذهبية وطائفية لهم في هذا البلد العربي ولم ينبشوا قبور «الصحابة» الأجلاء، ومن بينها قبر البطل الإسلامي الكبير خالد بن الوليد!
إنه علينا أنْ نعود إلى الخامس من يونيو (حزيران) عام 1967، حيث كانت القرارات التي فرضها الرئيس الراحل جمال عبد الناصر على العرب وفي مقدمتهم مصر وبالطبع الأردن وسوريا هروباً من خيبات أمل رافقته عندما أقام الجمهورية العربية المتحدة، التي لم تصمد إلاّ لفترة قصيرة وعندما ذهب إلى اليمن بخطوة ارتجالية عاد منها بجيش مدمَّر وغير مؤهل على الإطلاق، وفي الذهاب بالتالي إلى حرب مصيرية كانت إسرائيل تخطط لها منذ سنوات طويلة لاحتلال سيناء حتى قناة السويس والضفة الغربية حتى نهر الأردن وهضبة الجولان حتى مشارف العاصمة دمشق.
كان عبد الناصر قد أقنع الملك حسين أو ألزمه بدمج الجيش الأردني في القوات المسلحة المصرية، تحت إمرة قيادة واحدة في إطار اتفاقية دفاع مشترك تضم سوريا والعراق أيضاً بقيادة الفريق عبد المنعم رياض ألْحق بها أحمد الشقيري على اعتبار أنه قائد جيش التحرير الفلسطيني كرئيس للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، التي كانت قد أنشئت في مؤتمر القدس الشهير في عام 1964، ويومها كان واضحاً ومعروفاً أن الحرب قد أصبحت على الأبواب، وأنه لا مناص منها على الإطلاق.
عندما عاد الملك حسين من القاهرة، ومعه الفريق عبد المنعم رياض وأحمد الشقيري بادر فوراً إلى عقد اجتماع طارئ لكبار رجالات الدولة الأردنية وعرض عليهم هذا الاتفاق، الذي يقضي بضرورة الذهاب إلى الحرب، وكان الرافض الوحيد من بين هؤلاء جميعاً هو وصفي التل الذي عندما سأله العاهل الأردني عن سبب هذا الرفض أجاب بـ«إننا إذا ذهبنا إلى هذه الحرب فإننا سنفقد الضفة الغربية»، وكان جواب الملك حسين: «ولكننا إذا لم نذهب يا أبا مصطفى فإننا سنفقد الضفتين، الضفة الغربية والضفة الشرقية»، بمعنى أنّ النظام الأردني سيسقط في هذه الحالة وبتهمة التآمر والخيانة.
والمهم وما دام أن الحديث عن هضبة الجولان، فإنه لا نقاش في أنها ذات موقع استراتيجي ومهم يصل مداه إلى عكا وحيفا والناصرة في فلسطين المحتلة منذ عام 1948، وإلى بحيرة طبريا وشمالي الأردن كله وأيضاً إلى ما وراء دمشق حتى جبل العرب والسويداء، وإنه ما كان يجب أن يتم التفريط فيها بتلك الارتجالية وتلك السهولة… وهذا إنْ لم يكن هناك تآمر بكل معنى التآمر!
كان الجيش السوري قد دمرته الانقلابات العسكرية المتلاحقة من انقلاب حسني الزعيم في عام 1949 إلى انقلاب أديب الشيشكلي، إلى نقل كبار ضباطه المؤهلين إلى مصر خوفاً من انقلاب يقومون به على اعتبار أن غالبيتهم من البعثيين، إلى انقلاب الانفصال عام 1962، إلى أول انقلاب بعثي في مارس (آذار) عام 1963، الذي كانت قد تخللته محاولة الانقلاب الناصري الفاشلة التي قام بها جاسم علوان، ثم وفوق هذا كله كانت كل تلك الصراعات البعثية – البعثية التي أدت إلى حركة فبراير (شباط) عام 1966، وإلى الانقلاب الذي قام به حافظ الأسد في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1970.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن الضباط السوريين الذين تم الإفراج عنهم قبل ساعات من اندلاع حرب يونيو عام 1967 كانوا في أوضاع مزرية، وبالطبع من دون أسلحة، وأن المفاجأة كانت أن بلاغاً كان قد أصدره محافظ القنيطرة عبد الحليم خدام بـ«أوامر» من وزير الدفاع حافظ الأسد، وأعلن فيه سقوط الجولان قبل سقوطها بيومين، وهذا قد فاجأ الإسرائيليين أنفسهم وظنوا أن وراء هذا خطة عسكرية سورية مفاجئة.
وهنا أيضاً فإن ما يجب أن يقال، وهذا ما كان يعرفه كبار المسؤولين العرب السابقين وما كان يعرفه إلاّ عدد محدود من قادة حزب البعث، هو أن إعلان سقوط الجولان قبل سقوطها بيومين، وأن سحب الجيش السوري من دون أي مواجهة فعلية مع الإسرائيليين ومن دون أي خسائر بشرية كان سببه الاعتقاد أن الهضبة السورية ساقطة لا محالة، وأن الإسرائيليين يحاصرون دمشق، التي كان قد تم نقل مؤسسات الدولة والمراكز القيادية الحزبية منها إلى حمص التي يجب أن يكون الدفاع الحقيقي عنها وبالقوات التي غادرت القنيطرة والجبهة الأمامية من دون أي اشتباك فعلي مع القوات الإسرائيلية المتقدمة ومن دون أي خسائر.
وهكذا فإنه ما كان يجب تحميل مسؤولية سقوط القنيطرة للأسد وحده، وبالطبع ولا لمحافظ القنيطرة، بل للقيادة السورية كلها، وأيضاً وقبل هؤلاء جميعاً للرئيس جمال عبد الناصر الذي بتقديراته الخاطئة قد أقحم العرب في حرب كانت نتائجها معروفة سلفاً وواضحة!
وأيضاً فإن ما يجب أن يقال هو أنه لو لم يصل الجيش العراقي في حرب عام 1973 إلى دمشق، قبل وصول الإسرائيليين إليها بساعات لكان الجيش الإسرائيلي قد احتلها وألحقها بهضبة الجولان، وهذا مع العلم أن الدبابات العراقية كانت قد قطعت كل هذه المسافة الطويلة على جنازيرها، وذلك في حين أن المفترض أن يتم نقلها بشاحنات خاصة.
ويبقى أنه لا بد من التأكيد ومرة أخرى وقد أصبحت سوريا عملياً تعاني من وجودين آخرين هما، التدخل الروسي والاحتلال الإيراني، مع الإشارة إلى أن هناك اعتقاداً بأن الأميركيين لن يستجيبوا لإلحاح بنيامين نتنياهو ويوافقوا على ضمّ إسرائيل للهضبة السورية.