بعد اسابيع قليلة، في الحادي عشر من آذار ـ مارس المقبل، تدخل الثورة السورية سنتها الخامسة. مع مرور الأيّام، يتبيّن كم حجم تضحيات الشعب السوري كبير وكم سيكون صعبا بقاء الكيان السوري موحّدا. يعود ذلك إلى أنّ سوريا عانت منذ الإستقلال من أزمة كيان ونظام في الوقت ذاته. لم تكن هناك أي شرعية لأي نظام فيها باستثناء فترات قصيرة كانت فيها مجالس نيابية منتخبة. ما تبقّى كان أنظمة تستند إلى كلّ شيء باستثناء الشرعية.
بلغ التدهور في سوريا حالا بات فيها النظام يراهن منذ فترة لا بأس بها على الاحتفاظ بقسم من البلد، على أن يكون لهذا القسم ممرّ إلى لبنان، إلى سهل البقاع الذي يسيطر «حزب الله» على جزء منه، خصوصا محيط مدينة بعلبك.
هناك محاولات مستميتة يبذلها النظام منذ فترة من أجل تغيير طبيعة التكوين السكّاني في المنطقة التي ينوي السيطرة عليها والتي تشمل الساحل السوري ودمشق، مرورا بحمص، وصولا إلى الداخل اللبناني. كان التركيز في كل وقت على تحويل ما بات يعرف بـ»دولة النظام» إلى دولة تضمّ أقل عدد من المواطنين السنّة. وهذا يفسّر إلى حد كبير عمليات التهجير ذات الطابع المذهبي في حمص ومحيطها وشراء أراض في دمشق ومحيطها والسعي إلى الإرتباط بمناطق «حزب الله» في لبنان… فضلا عن تجنيس عراقيين ولبنانيين!
يبقى السؤال، هل سيكون ممكنا إخضاع دمشق، على الرغم من كلّ الجهود التي تبذل من أجل ذلك؟ إنّها جهود تستخدم فيها وسائل مختلفة وتلقى في طبيعة الحال دعما ايرانيا واسعا. هذا الدعم مباشر وعبر أدوات إيران اللبنانية والعراقية. ليس معروفا إلى متى يمكن أن يستمر ذلك، خصوصا بسبب التغيير الذي حصل في العراق منذ الإنتهاء من حكم نوري المالكي.
كذلك، ما يطرح تساؤلات في شأن الدعم الإيراني هبوط اسعار النفط في وقت بدأ الصراع على السلطة في طهران يأخذ طابعا جدّيا في ضوء مرض «المرشد» علي خامنئي من جهة واحتمال التوصّل إلى إتفاق في شأن الملف النووي مع الولايات المتحدة من جهة أخرى. ماذا يمكن أن يعني الإتفاق الأميركي ـ الإيراني، في حال حصوله، على صعيد البرنامج التوسّعي لإيران؟ هل يعني إطلاق يدها في المنطقة والإعتراف بها كقوة إقليمية تتقاسم النفوذ مع اسرائيل وتركيا، أمّ أن الإقتصاد سيقرّر في النهاية حجم قدرة ايران على لعب دور أكبر من دورها؟
بغض النظر عمّا سيكون عليه الدور الإيراني على الصعيد الإقليمي،هناك عاملان يدعوان إلى التشاؤم بمستقبل سوريا. الأوّل السياسة الأميركية والآخر الطموحات الإيرانية.
لا وجود، إلى اشعار آخر، لسياسة أميركية واضحة تجاه سوريا، خصوصا في ظلّ إدارة حائرة إختزلت مشاكل الشرق الأوسط بالملفّ النووي الإيراني. أكثر من ذلك، لا يبدو أن الولايات المتحدة مهتمّة بتحقيق هدف ما في سوريا باستثناء أنّها ترفض القيام بأيّ خطوة تحول دون تفتيت البلد أو تسيء إلى ايران.
حتى بالنسبة إلى روسيا، التي ليس مفهوما لماذا تدعم نظاما بات معروفا جيّدا أنّه انتهى، هناك مسايرة أميركية لها. تبدو إدارة أوباما في وضع من يريد تفادي أي مواجهة مع روسيا في شأن سوريا. هذا لغز غير مفهوم ولا تفسير له سوى الرغبة في عدم إزعاج ايران والرهان على إمكان التوصل معها إلى إتفاق يتعلّق بالملفّ النووي الذي بات محور السياسة الأميركية في الشرق الؤسط.
أمّا بالنسبة إلى ايران حيث يدعو «المرشد» إلى ارسال شبّان إلى سوريا والعراق ولبنان، فلا شيء يدلّ على استعداد للتراجع. على العكس من ذلك، هناك سياسة ايرانية تقوم على تشجيع قيام «دولة النظام» المرتبطة بلبنان وبدويلة «حزب الله» في غياب القدرة على تحويل سوريا كلّها إلى مستعمرة. ولذلك، نجد طهران تطلب هذه الأيّام ضمانات محددة، على شكل عقارات، في مقابل كل دولار تريد تقديمه إلى النظام.
يبدو المستقبل مظلما في سوريا في ظلّ نظام لم يمتلك يوما أي شرعية من أيّ نوع كان. إنّه نظام لا يرى من مخرج سوى قيام دولة خاصة به تكون في نهاية المطاف تحت رحمة ايران وتعيش في ظلها.
يدفع النظام حاليا ثمن عجزه عن فهم المعادلة الإقليمية. لا يشبه عجزه غير عجز صدّام حسين وغبائه السياسي الذي دفعه إلى إجتياح الكويت صيف العام. لم يكن حجم جريمة اغتيال رفيق الحريري ورفاقه في مثل هذه الأيام من العام أقلّ من جريمة احتلال الكويت. في الحالتين نجد ايران تملأ الفراغ الذي تركه سقوط صدّام في العراق، فيما هي في صدد ملء الفراغ الناجم عن سقوط بشّار الأسد، الذي سقط عمليا قبل أن يسقط رسميا.
هل ما يؤهل ايران على لعب هذا الدور الإقليمي، الذي يعني أوّل ما يعني الإنتهاء من سوريا التي عرفناها، حتّى لو توصّلت إلى إتفاق في شأن ملفها النووي مع إدارة أوباما؟ الأكيد أن قدرتها على لعب هذا الدور أمر صعب لكنّه ليس مستحيلا. الأكيد أن مستقبل سوريا أسود بغض النظر عما إذا كانت ايران ستربح رهانها أم ستخسره…
ما هو أكيد أكثر من ذلك كلّه، أنه تظلّ للكتلة العربية كلمتها في المنطقة. صحيح أن الكتلة العربية لم تستطع التدخل في سوريا ومنع ادارة أوباما من متابعة سياسة تصبّ في تفتيتها. لكنّ الصحيح أيضا أنّه لا يزال مجال لقرار عربي يتجاوز السياسة الأميركية. هذا ما حصل في مصر حيث كان يمكن أن يقع البلد العربي الأكبر في الشباك الإيرانية بفضل الإخوان المسلمين والنظام الذي سعوا إلى إقامته.
كان القرار العربي القاضي بإنقاذ مصر من براثن الإخوان دليلا على أنّ هناك من يفكّر في المستقبل ويرفض الإنقياد لإدارة أميركية لا تعرف ماذا تريد، باستثناء أنّها تريد استعادة ايران. تريد إدارة أوباما استعادة ايران ولكن من دون طرح سؤال بديهي هو أي ايران مطلوب استعادتها؟ هل ايران التي ترتهن على اثارة الغرائز المذهبية في كلّ بلد عربي، على غرار ما شهدناه في العراق؟
نعم، مستقبل سوريا أسود. هل يمكن عمل شيء عربيا، على غرار ما حدث مع مصر حيث ساند العرب ثورة شعبية حقيقية قلبت نظام الإخوان. الجواب أن الوضع السوري تجاوز مرحلة كان لا زال ممكنا عمل شيء للبلد. الواقع أنّ إدارة اوباما لم تترك مجالا سوى لخيار واحد هو تفتيت سوريا. هل تتمكّن ايران من الحصول على جزء من هذا الكيان؟ الجواب متروك للمستقبل…