لا يحمل القرار رقم 2254 الصادر عن مجلس الأمن أي مؤشرات عن حل قريب للأزمة السورية، لا بالنسبة للشعب الثائر والمشرّد، ولا حتى بالنسبة للنظام نفسه وإن كان يمنحه مساحة زائدة من الوقت، فالقرار ليس أكثر من خلطة من الصيغ الملتبسة والفضفاضة تعكس درجة عالية من المماحكة الدبلوماسية ومحاولات إظهار فن التفاوض الحاصل فيها ولكنها لا تصلح للتطبيق على أرض الواقع، شيء يشبه الأكلات التي تقدم في برامج الطبخ التلفزيونية، إحترافية في الصنعة والشكل لكنها لا تصلح للاستهلاك على موائد العائلات.
لم يتطرق القرار لجذر المشكلة وأساسها وهو قيام ثورة شعبية ضد الفساد والقهر والتهميش، وكان هذا أول وأخطر أعطابه، حيث ينزلق من السطر الأول فيه إلى متاهات المجاملة أو لنقل سياسة التمريق، وإذا كانت اللبنة الأولى في هذا البناء على هذا القدر من الهشاشة فإن القرار سيستمر بعد ذلك في مبناه ومعناه معوجاً ونافراً، اذ لم يكن من مصلحة أحد، ولا حتى حلفاء النظام أنفسهم، تغييب الواقعة الأساسية للحدث ومحاولة لغمطتها، وكأن الحدث السوري حصل عشية قرار القوى الكبرى الإتفاق على صياغة قرار دولي بحل أزمة سابحة في الفضاء غير معروفة الهوية والإنتماء.
تبعاً لهذا الإنحراف راح نص القرار ينفصل عن الواقع شيئاً فشيئاً لينتهي بعد ذلك إلى جملة من الأساطير قد تنفع في معالجة نزاع في زمان ومكان ما لكنها بعيدة كل البعد عن الوقائع والحيثيات السورية، مثل الدعوة لوقف إطلاق نار دون وجود أليات محدّدة للتطبيق والمراقبة، وكذلك إنتظار القائمة التي ستصدرها العاصمة الأردنية عن الفصائل الإرهابية والمعتدلة بما يستدعي تحديد الجغرافيا التي سيتم استثناؤها من قائمة وقف إطلاق النار، وهذه الاخيرة غير خاضعة لمعايير محدّدة بقدر ما تخضع لتقديرات كل طرف على حدة عن أثر إخراج هذا الفصيل أو ذلك من ساحة الإعتدال إلى ساحة التطرف ومساهمة هذا الوضع في تغيير ديناميكية الصراع.
والعلّة الأكبر في هذا القرار أنه لم يتطرق لوجود روسيا وإيران وعشرات الميليشيات التابعة للأخيرة والتي تقدّرها بعض التقارير بأكثر من مئة ألف مقاتل، أي أنه نصف مساحة المشكلة لم تجر الإضاءة حولها في هذا القرار، ما يثبت زخم منطق المجاملة في الصياغة ويظهر تالياً لاجدية القوى التي وقفت وراء هذا القرار في الوصول إلى حل واقعي.
لكن في الواقع أتاح القرار فرصة هائلة للدبلوماسية للتدرب على المفاوضات وتفخيخ الصياغات والتلاعب بالجمل والعبارات، إذ يكشف تحليل نص القرار حجم الجهود المبذولة وكم العرق المسال عند كل نقطة وفاصلة، وكل عبارة فيه شكّلت خط إشتباك بين الأطراف وكل جملة تطلبت قدراً كبيراً من التفاعل والتنازل والتراضي، لكن أيضا كل ذلك للأسف أوصل القرار إلى حالة من العقم عند التطبيق، فلا يمكن تصريف بنوده على ارض الواقع كما لا يمكن ترجمة محتواه إلى آليات منتجة للحل وضابطة للصراع.
حسناً، هل يعني ذلك أن الأطراف والقوى الدولية إرتضت الدخول وبعيون مفتوحة إلى لعبة عبثية غير منتجة، العقلانية السياسية لا تقبل مثل هذا المنطق والنضج السياسي الذي تتمتع به الدول بعد إكتواءها من نار الصراع السوري تحتّم جعل الاطراف أكثر جدية ووعيا بل وإصراراً على الخروج من عنق زجاجة الأزمة والذهاب إلى حلول وسط وتسويات مقبولة مقابل تنازلات مؤلمة هنا وهناك.
ثمة تفسيران لهذه الحالة غير واضحة المعالم، الاول: أن القرار لا يزال يسبح في عالم رهانات القوى والدول، ولا يشكّل انعكاساً حقيقياً لرغبتها في الوصول إلى حل للازمة، بمعنى أن الأطراف قبلت التواضع على هذا النص على أمل أن يمنحها فرصة لتطوير وضعياتها الميدانية، كحال روسيا التي ترغب في إقناع القوى الإقليمية والدولية برغبتها في الوصول إلى تسوية إلى حين تستطيع تغيير الوقائع لصالحها وفرض سياسة الأمر الواقع على الجميع، او بالنسبة للإدارة الأمريكية التي تريد دفع روسيا إلى مزيد من الإلتزامات والتنازلات وهكذا حتى الوصول إلى حل مقبول.
التقسير الثاني: أن القرار يعتبر نوعاً من الاستثمار المستقبلي للخروج من الأزمة بالنسبة لروسيا تحوطاً لمنع احتمال استنزافها في المقلب السوري وبذلك تكون قد وضعت إرهاصات خروجها من الأزمة، أو استثمار بالنسبة للمجتمع الدولي والقوى الكبرى فيه بأنها فعلت ما يلزم فعله لمواجهة تداعيات الازمة وبعدها وفي حال التعثر يمكن اللجوء إلى سياسات إنكفائية أو حتى تحالفات غير طبيعية لحماية أمن كل دولة على حدة.
ماذا يعني ذلك، بالمختصر ما زال الوقت باكراً لحل الأزمة السورية وما زالت الأطراف في حالة إختبار لنوايا الأطراف المقابلة وإختبار لقوتها في الفوز، وأمام هذين الإختبارين سيقف شعب سورية زمناً أخر على أعتاب الإقتلاع والتدمير والقتل بمختلف أنواع الأسلحة.