قرأ الرئيس الأميركي باراك أوباما، فعل الندامة، على احتلال العراق وقتل رئيسه الراحل صدام حسين. لكن أوباما يندم على نتائج لم تكن متوقعة، في حينه، من تمدد النفوذ الإيراني. في الواقع، كانت هذه الحرب، خطوة أولى نحو عزل إيران وضربها، من خلال إسقاط سوريا وحزب الله، وإقامة خط خاضع من بغداد إلى بيروت.
غير أن التاريخ عمل بالاتجاه المعاكس؛ أصبح الاحتلال ورطة في مواجهة المقاومة والفوضى والعجز عن الإدارة، سوريا صمدت أمام التهديدات، وحزب الله هزم العدوان في عام 2006؛ فسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد، قبل السعي إلى تكراره، مرة أخرى، في عام 2011، بشنّ الحرب الإرهابية على الجمهورية العربية السورية، لكنها صمدت ثانيةً، وحزب الله قاتل ثانيةً، وتظهرت، في الأثناء، نتائج التحول القومي في روسيا.
بالمقابل، كان لاحتلال العراق، تداعيات سلبية؛ فلقد نجحت ثلاثية الإمبريالية الأميركية والرجعية العربية والعثمانية، في إضرام الحريق المذهبي في المنطقة؛ أولاً، بدت السلطة العراقية الجديدة، للسعودية والخليج وتركيا، وكأنها انقلاب جيوسياسي مذهبي لمصلحة إيران والشيعة، على حساب السنّة العراقيين والعرب، وحفز هذا التقدير، ثانياً، مقاربة خليجية ــ مصرية ــ أردنية ــ فلسطينية، مزدوجة؛ فمن جهة، جرى التواصل مع أعداء الأمس، الصداميين، ودعمهم، ودفعهم نحو خطاب مذهبي وسلفي؛ (انتهى لاحقاً بسيطرة القاعدة ــ داعش على المناطق العربية السنية في العراق)؛ ومن جهة أخرى، جرى إطلاق مشروع، هدفه إطاحة النظام السوري، و»استرداد سوريا»، تعويضاً عن خسارة العراق.
كان رئيس الوزراء اللبناني، رفيق الحريري، رجل السعودية الكبير، هو المكلف قيادة عملية سياسية وأمنية، معقدة وسرية، ولكن فعالة، للتفاهم مع أطراف معتدلة في النظام العراقي الجديد (إياد علاوي) والتهيئة لانقلاب في سوريا. ووسط مداخلات غامضة، وقع اغتيال الحريري، الحدث الذي استُغلَّ فوراً لاتهام سوريا، وإطلاق «ثورة الأرز»، وإخراج القوات السورية من لبنان، وتجييش سنّته ضد دمشق وحزب الله وطهران، وجرى استخدام المناخ المسموم كله لاستصدار قرار بتشكيل محكمة دولية، تحولت إلى هيئة لتهديد سوريا والمقاومة. غير أن السعوديين والإسرائيليين، كانوا أكثر استعجالاً للحسم الحربي الفاشل ضد الحلف اللبناني ــ السوري، عام 2006. وبنتيجة الفشل، تم التوصل إلى اتفاق الدوحة، ومن ثم كانت زيارة الملك عبدالله بن عبدالعزيز، محطة مصالحة مؤقتة مع دمشق.
كان ذلك… في 31 تموز 2010!
ولكن شهر العسل الصعب، لم يدم سوى تسعة أشهر؛ ففي «ربيع» العام التالي، 2011، كانت المخابرات السعودية، طرفاً أساسياً في الاجتماع الذي استغل فرصة التحركات الجماهيرية العربية، لكي يخطط لشن الحرب على سوريا، وضم ممثلي الأجهزة التركية والأميركية والفرنسية والقطرية والإماراتية في تركيا.
لم يكن العداء للدولة الوطنية السورية، يوماً، ناجماً عمّا يُقال عن تشنجات السياسة العربية، وتوتراتها البينية؛ إن إسقاط سوريا، كان ولا يزال وسيظل هدفاً استراتيجياً للإمبريالية الأميركية والصهيونية والرجعية العربية والعثمانية، يتحرك أو يخمد في سياق المعطيات وموازين القوى. في السبعينيات، جرى استخدام فتح وحلفائها اللبنانيين، ولاحقاً خصومهم من كتائب وقوات، وبدعم متفاوت، سعودي ــ مصري ــ عراقي، ضد سوريا ودورها الإقليمي. وفي الثمانينات، قاتلت دمشق على جبهتين متحالفتين، الإخوان المسلمين، وإسرائيل ومحاولات فرض الهيمنة على لبنان.
وإذا كانت حرب الخليج الثانية، وسقوط الاتحاد السوفياتي، قد خلق مناخاً لقيام علاقات مغازلة بين دمشق وواشنطن، في التسعينيات، فإن خلاصة ذلك العقد كانت صفراً بالنسبة إلى الأهداف الأميركية.
لا نحسب الصمود السوري، إذاً، بالسنوات الأربعة الأخيرة؛ ولا حتى بالسنوات الخمس والأربعين الأخيرة من حكم الأسدين، بل علينا أن نعود، في الزمان، ما يقرب من قرن، إلى الحراك القومي وشهدائه للتحرر من الاستعمار التركي، إلى يوسف العظمة وميسلون والثورة السورية الكبرى ضد الاحتلال الفرنسي، والنضال لاسترداد اللواء السليب، ونشوء أحزاب حركة التحرر الوطني، وحرب 1948، ومعارك الخمسينيات المجيدة، ضد الإمبريالية الأميركية والرجعية العربية وتركيا، وتخطي آثار عدوان 1967، وإعادة تأسيس الجيش العربي السوري، ومعارك حرب تشرين. وكل ذلك معروف للقراء جيداً؛ وإنما أذكّر، فقط، بأن العداء الاستعماري الرجعي لسوريا، لم ولا يرتبط بنظام أو رئيس أو سياسات أو مذاهب أو أحزاب أو بعلاقات مع هذه الدولة أو تلك المنظمة؛ فقبل إيران كانت دمشق توغر صدور أعدائها بعلاقاتها المميزة مع الاتحاد السوفياتي، وقبل حزب الله، لم تبصر بندقيةٌ مشرقية مقاومةٌ، النور، إلا في دمشق.
العداء لسوريا، في العمق، هو عداء للدولة الوطنية المستقلة والمجتمع التعددي والعلمانية والثقافة التقدمية والقوى المنتجة في الصناعة والزراعة والجيش العقائدي وروح المقاومة. وهذه كلها أصيلة متجذرة في مجتمع وجيوسياسية الجمهورية التي لم تتبدل سياساتها الرئيسية مع تبدل الأنظمة، كما حصل في تجربة النظام الناصري؛ ففي مصر ناصر، كانت السياسات القومية والتنموية، مفروضة من أعلى، وانتهت برحيل القائد، بينما ظل المجتمع السوري، وسيظل، يفرض على أنظمته، التوجهات التي صاغها تاريخ وطن عظيم، اقتطعوا من جسده جنوبه الأردني ــ الفلسطيني، وغربه اللبناني، وشاطئه الشمالي، ولكنه بقي يجترح معجزة الصمود والتحدي.