IMLebanon

سورية ومرحلة تفكيك التحالفات

 

بإعلانه الانسحاب من سورية، لم يقصد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الخروج المادي لجيشه، بقدر ما كان القصد رمزياً، أو كناية عن إعادة تموضع في المسألة السورية، وليس في جغرافيتها، ذلك أن وجود روسيا في الجغرافية السورية أصبح خارج النقاش، وإنما بوتين يطرح ، في سوق السياستين الإقليمية والدولية، عناصر معينة من القضية، بهدف صيانة علاقات روسيا، وإعطاء دورها الشرق أوسطي زخماً جديداً.

أراد بوتين القول إن روسيا التي كانت قبل سنتين في سورية، تنسحب لتحل مكانها روسيا جديدة تتناسب مع طبيعة المرحلة والتي بدورها تحتاج الى آليات مختلفة غير الطائرة والمدفع، بقدر ما تحتاج إلى تفاهمات إقليمية ودولية جديدة.

على ذلك، فإن هذا التموضع الروسي لا يأتي ترفاً بل تجد روسيا نفسها مجبرة على فعل ذلك، وإلا فإن كل ما حققته سينتهي بالفشل وكل ما استثمرته في سورية والإقليم سيتحوّل إلى ثقب أسود يبتلع كل الرصيد السياسي المتحقق لروسيا، ويدرك الكرملين أن ما بين النجاح والفشل شعرة صغيرة تتعلق بحسن إدارة المرحلة الانتقالية، انتقال روسيا من الحرب إلى التسوية، وليس هناك أفضل من هذا الوقت لإدارة العملية قبل أن تتغير الشروط والمعطيات.

المرحلة تبدأ إذاً بإعادة هيكلة التحالفات أو أقله إعادة صياغة التفاهمات، فمع انتهاء العمل العسكري انتهت الأهداف المرحلية ذات الصلة بنجاح هذا العمل من خلال الانتصار على معارضة الأسد وجلبها إلى طاولة المفاوضات وفق لائحة الشروط الروسية، والآن ثمة قضيتان مهمتان في سورية، نجاح عملية السلام، وإعادة الإعمار، ولهاتين العمليتين حلفاؤهما والجهات القادرة على إنجازهما.

التفارق بين روسيا وإيران أصبح واقعاً تفرضه الوقائع والمصالح، ذلك أن مشروع روسيا في سورية بات يشترط وقف الحرب لاستكمال بقية عناصر المشروع، بخاصة بعد أن تكشّف أن الاقتصاد والاستثمارات والسيطرة على إنتاج الغاز وخطوط نقله ستتحوّل إلى روافع لاستمرار المشروع الروسي، على رغم الأهمية الجيوسياسية التي حققتها قاعدة حميميم وميناء طرطوس عسكرياً، لكن روسيا بحسابات الربح والخسارة ليست في حاجة الى نقاط حراسة لمراقبة أمواج البحر المتوسط، بقدر حاجتها الى استثمارات تضخ الأرباح لخزائنها ولحسابات النخبة الموسكوفية المحيطة ببوتين.

أما إيران، فإن مشروعها لم يكتمل بعد، وما زالت في حاجة الى حروب ومعارك قد تستهلك العقد القادم كله لتثبيته، فهو ليس مجرد طريق لا تزال إيران في طور تصميم رسمه ولا تزال تعترضه قطوعات كثيرة ويحتاج الى ترتيبات أكبر من ظهور قاسم سليماني في هذه البقعة أو تلك، ما زال لديها عمل كثير لتطويق إسرائيل من جنوب سورية ووصل مناطق القلمون بسلسلة جبل لبنان الشرقية، وضمان عدم عودة اللاجئين نهائياً لتحقيق التوازن الديموغرافي المستحيل. ما زال مشروع إيران أو الجزء المهم منه على الورق وحتى الجزء المنفذ يحتاج الى حروب أطول وزمن أكبر حتى يستقر.

وروسيا غير معنية بانتظار إيران ولا مشاركتها صراعاتها القادمة. وبالتأكيد، تدرك موسكو أن هذا المشروع غير عقلاني ويستحيل إكماله وبالتالي هي تخرج نفسها منه، وعند هذه اللحظة تبرز الفوارق وتتعمق بين روسيا وإيران، اللتين دمجتا في مرحلة سابقة قواتهما البرية والجوية لإنجاز مهمة السيطرة على الأرض السورية، حينذاك كانت إيران بالنسبة الى روسيا شريكاً مهماً لديه الجرأة على التضحية بآلاف الجنود، وهو أمر لم تكن روسيا المرعوبة من شبح أفغانستان قادرة على الإقدام عليه.

وأهم تلك الفوارق أن روسيا بلد له عقلية استعمارية تخضع سلوكها العسكري لحسابات الربح والخسارة، كما تمثل الرشاقة في إنجاز المهام معياراً لتحقيق النجاح فيها، يضاف إلى ذلك تحررها من الأحمال الأيديولوجية التي قد تثقل حركتها وتكبل مرونتها، في حين أن إيران بلد متخلف تحكمه أيديولوجيا رجعية لا تقاس النجاحات لديه بمعايير السرعة والربح بل إن دوام الحروب واستمرارها فرصة لتوليد الفوائد التي غالباً ما تؤدي إلى إخضاع المجتمع المحلي الإيراني وتدمير الجوار.

المهمة الروسية في الجزء الأكبر منها انتقلت إلى المجال السياسي، بما فيها تثبيت بشار الأسد في السلطة، أقله إلى حين إيجاد البديل من داخل النظام، وذلك سيتطلب خلق ديناميكيات سياسية جديدة، ويحصل ذلك في مناخ أقل توتراً ما قد يشكل عاملاً مساعداً في إنجاح قيام شبكة أو شبكات علاقات جديدة بين اللاعبين المختلفين.

وحتى تستطيع روسيا تسويق طرحها السياسي في سورية ستضطر إلى تكييف شروطها كي تتمكن من بناء مصالح مشتركة مع اللاعبين المؤثرين، إقليمياً ودولياً، مع وجود احتمال دائم بإمكان تعقّد الحل واستمرار حال اللاحرب واللاسلم في سورية فترة زمنية طويلة، إذا أصرت روسيا على فرض الحل وفق رؤيتها وبشروطها، فليس ثمّة أطراف مضطرة لإنقاذ بوتين وحليفيه نظام الأسد وإيران.