بات في حكم المسلّم به أن روسيا تمتلك في شكل كامل مفاتيح الأحجية السورية برمتها بأبعادها العسكرية والديبلوماسية. فلا حراك عسكرياً للنظام وحلفائه من دون ضوء أخضر يتّسق مع رؤى القيادة في حميميم، ولا مقاربة سياسية تفاوضية تمرّ دون رضى موسكو. وإذا ما قيّض لمن لم يفهم هذه القاعدة أن يتمرد على تلك المسلّمة فإن خسائره سترتفع، كما حال «حزب الله» في ريف حلب الجنوبي، وجنرالاته سيسقطون، كما حال ضباط إيران في خان طومان.
لا يأتي هذا الاحتكار الروسي للملف السوري من جبروت كاسح لموسكو، بل من إجماع دولي، ويبدو إقليمياً أيضاً، لإيكال أمر سورية لإدارة الكرملين بزعامة فلاديمير بوتين. تأخرت هذه «الوكالة»، لكن واشنطن التي جرّبت الأداء الروسي خلال سنوات الأزمة السورية أقرت لموسكو بمواهب تؤهّلها للقيام بالمهمة وحتى إشعار آخر.
مارس الروس لعبة كرّ وفرّ مع الأميركيين أمام شواطئ سورية منذ اندلاع أزمتها عام 2011. كانت السفن الروسية تقوم بزيارات روتينية، أو استعراضية، لقاعدتها البحرية في طرطوس. وفي كل مرة كانت تطلّ سفن الأسطول الأميركي في المنطقة، كان الروس يسحبون سفنهم ويوجّهونها نحو مقاصد أخرى. وحين اتُّهم النظام السوري باستخدام السلاح الكيماوي ضد الغوطة (شرق دمشق) في صيف 2013، اعتبرت إدارة أوباما أن خطّ الرئيس الأحمر قد اخترق، فحرّكت قطعها البحرية باتجاه الساحل السوري متوعّدة بالعقاب.
لم تصل سفن واشنطن ولم ينفَّذ تهديد أوباما. قامت موسكو باستدعاء وزير خارجية دمشق وليد المعلم لإبلاغه بـ «الغضب» الأميركي، وعملت على ترتيب بروتوكول يسلّم بموجبه النظام السوري ترسانته الكيماوية كاملة، وهذا ما حصل. تولّت موسكو برشاقة مذهلة العمل لمصلحة الإدارة الأميركية لتخليص إسرائيل (والسوريين بالمحصلة) من هاجس أمني يؤرقها. ولئن اقتصرت مصالح واشنطن في سورية على مسألة الأمن الإسرائيلي فقط، فإن روسيا التي أدركت مفاتيح الأمر، عجلت في تطوير علاقاتها مع إسرائيل، لدرجة أن الرئيس بوتين انتزع من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو عدم ممانعته التدخل الروسي العسكري في سورية، طالما أن موسكو تلبي شروط تل أبيب الأمنية، بما في ذلك منح إسرائيل ضرب ما تراه خطراً على أمنها في سورية، وربما بتنسيق ورعاية روسيين.
جهد العالم بأسره لتوفير الظروف الضرورية لروسيا من أجل حسن سير «الوكالة» الممنوحة لموسكو. لم تكن الدول الإقليمية بعيدة عن ذلك، قامت السعودية بإعداد الوفد المعارض إلى جنيف، فيما تولى الأردن توفير لائحة بالمجموعات الإرهابية الواجب اعتمادها (والتي لم ترق للروس). وحدها تركيا التي أسقطت مقاتلة روسية في الخريف الماضي كانت تعبّر عن تململ من تلك «الوكالة» وتعتبرها تستهدف نفوذها ومصالحها.
لم يكن بالإمكان تخيّل أن تمرر روسيا مقاربتها السورية من دون مشاركة تركيا والدول المعنية الأخرى. أدركت موسكو منذ تدخلها العسكري (أيلول- سبتمبر 2015) أن قوة نيرانها لن تنجح في فرض رؤاها في سورية، وأن صمود المعارضة، على رغم كثافة التدخل العسكري لدولة يفترض أنها عظمى بالمعنى العسكري، لا يعود فقط إلى كفاءة المقاتلين، بل إلى استثمار إقليمي مضاد لن يسمح بسقوط سورية داخل المآلات التي يمكن أن يرسمها خطّ التحالف مع دمشق وطهران وتوابعها.
في المقابل، فهمت تركيا، أو أُفهمت، بأن أحلامها السورية بددها المزاج الدولي الإقليمي المعاند، وأن الـ «صفر مشاكل» التي أرادها أحمد داود أوغلو كلمة السرّ لرخاء بلاده ونجاح حزب العدالة والتنمية، تحوّلت كابوساً بسبب المسألة السورية وتورط أنقرة في مستنقعاتها. فهمت تركيا أيضاً جدّية «الوكالة» الممنوحة لروسيا، وصعوبة أن تعدّل إدارة أوباما، وربما إدارة من سيخلفه، موقف واشنطن من المسألة السورية.
في المواقف المعلنة، صار بالإمكان استنتاج رفض السعودية المطلق لإيرانية النظام السوري وقبولها أي تسوية تسحب أي نظام سوري بديل من تحت وصاية طهران. وصار بالإمكان استنتاج رفض تركيا المطلق لقيام كيان كردي شمال سورية يكون امتداداً لطموحات أكراد تركيا بقيادة حزب العمال الكردستاني. ووفق هاجسَي الدولتين، قد يجوز الاعتقاد أن بيد روسيا توفير ما يرضي أنقرة كما الرياض المتقاربتي الرؤى في شأن الحلّ السوري.
اجتمع وزراء دفاع روسيا وإيران في طهران في 9 حزيران (يونيو) الماضي. لم يرشح عن الاجتماع شيء يذكر، لكن بشار الأسد الذي استبق الاجتماع بالتصريح بأن حلب ستكون «مقبرة أردوغان»، أوحى بأن المجتمعين اتخذوا قراراً في هذا الشأن. على أن الهزائم التي مني بها النظام وارتفاع عدد قتلى «حزب الله» في الريف الجنوبي بعد أسبوع على اجتماع طهران، تكشف المزاج الروسي الحقيقي، وربما توحي أيضاً بمستوى التنسيق الذي كان جارياً مع تركيا قبل أسابيع من إعلان التطبيع الكامل للعلاقات بين البلدين، ذلك أنه لا يمكن تخيّل اندفاع حشود المعارضة بتسليح عالي النوعية داخل ما هو مفترض أنه جزء من مجال تركيا الاستراتيجي، دون ضوء أخضر إقليمي دولي، لا يبدو أن موسكو التي أبقت طائراتها في مهاجعها، كانت بعيدة عنه.
يوحي امتناع سلاح الجوّ الروسي عن تغطية الحراك العسكري لإيران وميليشياتها، بأن موسكو لن توفّر غطاء جوياً لأجندات لا تتوافق مع شروط «الوكالة». يوحي اللقاء المثير للجدل الذي جمع وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو مع بشار الأسد بأن روسيا تودّ التأكيد أن قاعدة حميميم -التي يبدو أنها استضافت لقاء الرجلين- هي مركز القرار العسكري في سورية، وليس اجتماع وزراء الدفاع الشهير في طهران، كما تبعث رسالة إلى من يهمه الأمر في واشنطن حول التزامها التام بقواعد «الوكالة» وأصولها.
في مشاهد العلاقة المتقدمة بين روسيا وإسرائيل، مروراً بتلك التي بين تركيا وإسرائيل، انتهاء بفصل التطبيع المتسارع الوتيرة بين تركيا وروسيا، يكتمل عقد الوكالة الممنوحة لموسكو في سورية، على ما سيتداعى حتماً على تطوّر الأزمة السورية لإنتاج تحوّلات دراماتيكية مقبلة في الخرائط العسكرية كما في ضجيج أروقة في جنيف.
* صحافي وكاتب لبناني