في ظلّ الوضوح الروسي والغموض الأميركي، هناك حلقة ضائعة. هذه الحلقة هي الشعب السوري الذي لم يعد هناك من يحسب له حساباً على الرغم من أنّه يبقى إلى إشعار آخر اللاعب الأساسي على الأرض السورية. إنّه اللاعب الأساسي على الرغم من تدفق الأسلحة والمقاتلين الروس والإيرانيين وعناصر الميليشيات الشيعية.
تعمل كلّ هذه القوى من اجل اقامة «دولة علوية« تحتكر لنفسها الساحل السوري.
كان ملفتاً أنّ التدخل العسكري الروسي جاء من دون أي اعتبار للواقع السوري الذي تعبّر عنه ثورة شعبية مستمرّة منذ ما يزيد على أربع سنوات ونصف سنة. هذه الثورة، التي لم تشهد مثلها أي دولة عربية هي ثورة حقيقية وصادقة قبل أي شيء آخر. إنّها تعبير عن رغبة شعب في استعادة بعض من كرامته. هذا الشعب لا يعترف بنظام جاء نتيجة انقلاب عسكري. لم تكن للنظام السوري أي شرعية من أيّ نوع في يوم من الأيّام. الأكيد أن الإيراني والروسي لن يتمكنا من إيجاد شرعية لا لبشّار الأسد ولا للذين يُعِدّونه للحلول مكانه في الوقت المناسب.
بعد أيّام على بدء التصعيد العسكري الروسي في سوريا، وهو تصعيد يستهدف الشعب السوري قبل أيّ شيء آخر، تبدو الصورة واضحة كلّ الوضوح. هناك تنسيق روسي – ايراني في العمق. هناك بكل بساطة توزيع للأدوار بين الجانبين اللذين يسعيان بمشاركة ميليشيا مذهبية لبنانية هي «حزب الله« من أجل خلق واقع جديد على الأرض السورية.
يشمل هذا التنسيق، الذي يتضمن توزيعاً للأدوار، اقناع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو بأن التطورات التي تشهدها سوريا، بما في ذلك وجود كلّ هذا العدد من الطائرات الروسية في منطقة الساحل السوري لا يمكن ان تشكّل أي خطر على اسرائيل. في المقابل، كان على نتانياهو اختبار وعود بوتين وان يؤكّد له أن بلاده لا يمكن ان تتهاون حيال كل ما من شأنه مسّ أمنها.
يبدو أنّ اسرائيل اختبرت النيات الروسية ومن خلفها النيات الايرانية، فوجّهت ضربات على مواقع محدّدة في الجولان لم يحصل أي ردّ عليها. كانت هذه الضربات التي جاءت مباشرة بعد زيارة نتانياهو لموسكو بمثابة دليل على ان التنسيق على خير ما يرام بين «حلف الممانعة« من جهة واسرائيل من جهة أخرى.
جاء التدخل العسكري الروسي المباشر في سياق خطة مرسومة وضعتها موسكو مع طهران. فالجنرال قاسم سليماني قائد «فيلق القدس« في «الحرس الثوري« الإيراني زار العاصمة الروسية مرّتين أخيراً وعقد اجتماعات مع العسكريين الروس بغية وضع الأسس للتنسيق بين الجانبين. كان هناك تعمّد للإعلان عن الزيارتين. اكثر من ذلك، إن معظم الطائرات الروسية التي تحط في اللاذقية ناقلة اسلحة ومعدات، تمرّ في الأجواء الإيرانية والعراقية وذلك لإثبات أن الحلف الروسي – الأميركي أقوى بكثير مما يعتقد.
ماذا يحصل الآن؟ هناك قوات ايرانية على الأرض، فضلاً عن قوات روسية لا تشارك في معارك برّية. وهناك اعادة تجميع للقوات السورية التي ما زالت موالية للنظام وللميليشيات التي انشأتها الأجهزة الأمنية وبعض النافذين. فضلاً عن ذلك، هناك مزيد من العناصر التي يرسلها «حزب الله« إلى الأراضي السورية. الهدف من ذلك كلّه، الإعداد لهجوم برّي يستعيد فيه النظام بعض الأراضي التي يحتاجها لتوسيع رقعة نفوذه وضمان قيام «دولة علوية« ذات امتداد في لبنان.
في اطار هذه الخطة، يلعب سلاح الجو الروسي دوراً يغطّي أي تقدّم على الأرض للقوات الإيرانية وتلك التابعة للنظام. ولذلك، كان أوّل ما فعلته الطائرات الروسية المرابطة في الساحل شنّ غارات على مواقع في مناطق قريبة من حمص وحماة وادلب تابعة لـ«الجيش الحر« ولتنظيمات اخرى معتدلة وليس لـ«داعش«.
ليس «داعش« في نهاية المطاف سوى مبرّر لمتابعة الحرب على الشعب السوري والسعي الى تصوير الثورة الشعبية في سوريا على غير حقيقتها وذلك خدمة لنظام طائفي امتهن مع حلفائه ممارسة الإرهاب بكل اشكاله منذ ما يزيد على خمسة واربعين عاماً، منذ ما قبل احتكار حافظ الأسد للسلطة في 1970.
في ضوء الموقف الأميركي المضحك – المبكي والتصريحات التي تتسم بالتناقض الصادرة عن المسؤولين الأميركيين، لا يمكن إلّا الاعتراف بأنّ الوضع السوري زاد تعقيداً. فالرئيس باراك اوباما، يتكلّم كقس بروتستانتي في قدّاس الأحد، ويبدو كأنّه يكتفي بالكلام الجميل عن الحرّية والديموقراطية والقانون الدولي، لكنّه يترك الأفعال لقيصر الكرملين الذي ينسّق كلّ خطوة من خطواته مع الجانب الإيراني. هذا الجانب الذي اثبت مرّة أخرى أنّه اخضع رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي لمشيئته. فاذا كانت تصريحات العبادي في شأن التطورات السورية تدلّ على شيء، فإنّها تدل على أن رئيس الوزراء العراقي الحالي ليس، في احسن الأحوال، سوى نسخة أخرى أقلّ فجاجة بقليل من سلفه نوري المالكي.
سوريا إلى أين؟ ليس صحيحاً أنّ العالم كلّه، على رأسه تركيا، تخلى عن سوريا والسوريين. هناك بعض العرب الشرفاء الذين يرفضون الرضوخ لما تسعى إلى فرضه واشنطن وموسكو وطهران وحتّى بعض العواصم الأوروبية من بينها برلين حيث الكلام المستغرب الصادر عن المستشارة انجيلا ميركل.
كلّما زاد الوضع السوري تعقيداً، زاد وضوحاً. هناك من لم يضع البوصلة، لا لشيء سوى لأن القضية السورية قضيّة شعب أوّلاً. صحيح أنّ سوريا، ككيان، مهدّدة بالتفتيت، لكنّ الصحيح أيضاً أن بقاء شعلة الثورة السورية مضاءة منذ آذار/مارس 2011، لم يكن من باب الصدفة. يصعب ايجاد شعب قادر على الصمود بالطريقة التي صمد بها السوريون على الرغم من كلّ هذا الحصار المفروض عليهم ومن غياب القيادة الواعية. ما لا يستوعبه الروسي والإيراني أن ليس في الإمكان شطب الشعب السوري من المعادلة، حتّى لو باتت طموحاتهما محدودة ومحصورة بـ«الدولة العلويّة«… التي لا يمكن ان تقوم يوماً، وان كانت تحظى بمباركة اسرائيلية. لن تقوم هذه الدولة لسبب في غاية البساطة يتمثل في ان كل حملات التطهير الطائفي والمذهبي والضربات الروسية والغارات الجوّية لا يمكن أن تلغي الأكثرية السنّية في كلّ منطقة من المناطق التي يتألّف منها الكيان السوري.