بعض الذين رحّبوا بالضربة الأميركية لمطار الشعيرات ربما سيكتشفون لاحقاً أنهم تسرَّعوا، وأنّ أجندة ترامب لا تلتقي معهم بالضرورة. فواشنطن والقوى الدولية كلها تساهلت مع اختناق 1400 مواطن سوري بكيماوي الغوطة، وليس مضموناً أن يحرّكها مقتل 140 في خان شيخون. ويجدر التفكير في الحسابات الأخرى بعيداً من العناوين الإنسانية.
في آب 2013، راهن كثيرون على أنّ إدارة الرئيس باراك أوباما سيستفزّها حجم مجزرة الغوطة، فتكون نهاية التردّد والمهادنة مع نظام الأسد. ولكن، بعد شهرين، فوجئ الجميع باتفاق كيري – لافروف الذي أنقذ نظام الأسد وأحال الملف الكيماوي في شكل غامض إلى الأمم المتحدة.
وهناك، صدرت براءة ذمة للأسد وشهادة اعتباطية تؤكد خلوّ مخازن النظام من الكيماوي. وهكذا، شرّع الاتفاق بقاء الأسد.
أطلق أوباما يد الرئيس فلاديمير بوتين عندما استقال من سوريا، تاركاً معارضي الأسد يجرّون ذيول الخيبة. لكنّ ترامب الذي خاض حملته الانتخابية مستغلّاً فشل أوباما في الشرق الأوسط بدا أنه يعتمد مقاربتين تلتقيان مع سياسة أوباما:
1- الاعتراف عملياً بأنّ هناك حاجة واقعية لاستمرار الأسد. وقد ظهر غزل واضح منذ الأسابيع الأولى من ولاية ترامب بينه وبين الأسد. وكان لافتاً أنّ الرئيس السوري أعلن دعمه تشدّد ترامب تجاه رعايا 7 دول مسلمة، فيما كان الرئيس الأميركي يواجه عاصفة معارضة في الداخل الأميركي.
2- التسليم بدور أساسي لبوتين في سوريا. بل إنّ ترامب «متّهم» بالتحالف والتنسيق معه ضد الحلفاء الأوروبيين، وإنّ موسكو اضطلعت بدور سرّي في وصوله إلى البيت الأبيض. فبوتين وترامب ينطلقان من نظرتين متقاربتين إلى العالم وطبيعة النزاعات التي تتحكم به.
لذلك، هناك مبرِّرات واضحة لشعور كثيرين بالصدمة عند مبادرة ترامب الى قصف مطار الشعيرات. وربما يكون بوتين نفسه أحد «المصدومين»، على رغم أنّ واشنطن أبلغت اليه مسبقاً عزمها على تنفيذ عملية ما، وهو بدوره أبلغ الى الأسد الذي سارع إلى إجراءات تقلّص الأضرار المتوقعة.
إذاً، لماذا قام ترامب بهذا العمل الخارج عن السياق في سوريا، وإلى أين يريد الوصول؟
يجدر أولاً عدم التسليم بأنّ التدخل ناتج عن مقتل عشرات المواطنين بغاز السارين. فهذه المحصلة تسقط في يومين أو 3 أو 4 بالبراميل المتفجّرة. فهل المعايير الدولية تبيح تمزيقَ أجساد الأطفال بالبراميل… لكنها تمنع اختناقهم بالغازات!؟ ولماذا لم يتدخل ترامب ليدافع عن أطفال ما زالت جثامين بعضهم مدفونة تحت أنقاض منازلهم، في أحياء أزيلت عن الخريطة؟
لا يمكن الركون إلى الدوافع الإنسانية في عملية الشعيرات إلا بنسبة ضعيفة. والأعمق هو الدوافع السياسية. وينبغي التنويه أولاً بأنّ هذه الضربة تبقى أضعف من المسّ بقدرات الأسد العسكرية، خصوصاً أن بوتين واقفٌ خلفه بقوة.
ولذلك، لا خطر على الأسد. وأساساً، لا يريد ترامب المسّ به.
فقط هو يريد توجيه رسائل سياسية يتقاطع الخبراء على تحديدها كالآتي:
1- خروج ترامب من وضعية التردّد الداخلي التي ترافق انطلاق عهده، والظهور بمظهر القادر على الفعل والمبادرة لا المكتفي بشعارات القوة.
2- التخلّص من «تهمة» أنه يعمل تحت أجندة بوتين.
3- توجيه إشارات تطمين إلى الحلفاء العرب التقليديين بأنهم يتّكئون على شريك قادر على حمايتهم من النفوذ الإيراني.
4- تثبيت شراكة واشنطن الأساسية في رسم الحلول السياسية في سوريا، ورعاية المتغيّرات الاستراتيجية المنتظرة، والاستثمار في الموارد وعمليات إعادة البناء.
وهنا يبدو العامل الأكثر ترجيحاً:
يريد ترامب إبرام اتفاق فكّ اشتباك في سوريا بينه وبين بوتين. فالاستراتيجية البوتينية تقوم على منع تقسيم سوريا ونشوء دويلات في الشرق الأوسط، ما يهدّد بانتقال العدوى إلى داخل الاتحاد الروسي بشعوبه الإسلامية وأعراقه.
وتحت هذا العنوان، أقنع بوتين خصمه التركي رجب طيب أردوغان بالصفقة: تعالَ نتصالح ونتشارك في سوريا ونمنع الأكراد من إقامة كيانهم على امتداد الحدود السورية وتهديد وحدة تركيا. والجهد الذي بذله بوتين، صيف العام الفائت، على المستوى العربي، أثمر اقتناعاً بأنّ قبول الأسد، ولو مرحلياً، ضروريٌّ لمنع تقسيم سوريا وسيطرة «داعش». ولذلك، بدأ إنهاء «داعش» وأخواتها.
الذين ذهبوا ضحية التفاهم الروسي – التركي مباشرة هم الأكراد وحلمهم بالكيان المستقل. لكنّ هذا الحلم ما زال يحظى بدعم أميركا وتأييد إسرائيل. ونظرة الأميركيين والإسرائيليين إلى الشرق الأوسط، استراتيجياً، تناقض النظرة الروسية والتركية.
لذلك، إنّ ضربة ترامب لمطار الشعيرات هي دخول أميركي مباشر إلى الرقعة السورية. ومجدداً، سيتلقّى الأكراد دعماً أميركياً لبناء كيانهم الذي فرّح الأتراك بتقطيع أوصاله الشرقية عن الغربية، بتغطية بوتين ورضوخ أوباما، منعاً لاكتماله على امتداد الحدود التركية وبلوغه البحر.
وبناء الكيان الكردي الكامل، هناك، يهدّد وحدة تركيا التي تضمّ نحو 15 مليون كردي، ونحو 10 ملايين علوي، أي ما حصيلته ثلث سكان تركيا، فيما أكراد كركوك يخوضون معركة رفع العلم الكردي وضمّ المحافظة إلى كردستان العراق، بدعم أميركي.
إنّ دخول الأميركيين إلى سوريا، في موازاة روسيا وتركيا وإيران، وربما تدخّل الأردن جنوباً في وقت لاحق، وإسرائيل دائماً من خلف الستارة، سيمنح كلاً من هذه القوى امتيازاً لتقرير مصير جزء من سوريا، ما يعني التقسيم عملياً.
مسموح بقاء الأسد أميركياً، ولكن ضمن حدوده الجغرافية وحدود القوة التي لا تهدّد السنّة والأكراد. والضربة العسكرية التي سدّدها ترامب ستسمح له ببدء مفاوضة استراتيجية مع بوتين حول مستقبل مناطق النفوذ في سوريا وسائر الشرق الأوسط، والملف الفلسطيني.
هناك لقاءٌ بين وزير الخارجية الأميركي ريكس تلرسون هذا الاسبوع مع نظيره لافروف في موسكو، قد يؤسس لاتفاق كيري – لافروف 2. لكنّ الرهان هو على اللقاء الأول المنتظر بين بوتين وترامب.
على الأرجح ستكون المفاوضة قاسية حول سوريا لأن لا مصلحة لبوتين وأردوغان والإيرانيين والقوى العربية بالفكرة الأميركية القاضية بإنشاء كيانات في سوريا، والتي يدعمها الإسرائيليون.
وفي الخلاصة، إنها ليست ضربةٌ لمطار، بل ضربةٌ لمسار، مسار أحاديةِ السيطرة على سوريا، وأحاديةِ سوريا. وهي تذكيرٌ بأنّ خيار التقسيم في سوريا وسائر الشرق الأوسط ما زال حيّاً يُرزَق!