IMLebanon

سوريا الفدرالية» أم «لبنان الكبير»

إذا صحّ ما قيل، فإن «سوريا الفدرالية» سترث «سوريا الدولة». الحرب من أجل تغيير النظام، غيَّرت سوريا كلها. ألغت الحدود الموروثة، حفرت حدوداً داخلية، بدّدت السيادة، شرّدت شعباً بات اليوم شعوباً… حرب النظام للحفاظ على السلطة في الدولة، «لبننت» سوريا، وهي بانتظار الولاَّدة الدولية… عندما تبرد الجثث، وترتفع الأعلام البيض، تكون سوريا قد خسرت جسدها: أشلاؤها ستكون مستقبلها.

قبل اندلاع التفاوض الخطر والمصيري، ترتسم في الخرائط أشكال مفترضة لنهاية الحروب. المفرط في التفاؤل، لا يتوقع سوريا واحدة وموحّدة. تفاؤله بصيص حل. توقعه، سوريا ناقصة… التصريحات الروسية والأميركية الأخيرة، تنبئ بخريطة طريق لتقسيم متوقع وملطف العبارات وموضَّب في إطار وحدوي هشّ. نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريابكوف أفصح بما يلي: «ان نظام الدولة في المستقبل الذي يعتمد النموذج (الاتحادي) سيخدم مهمة الحفاظ على سوريا موحّدة وعلمانية ومستقلة وذات سيادة»! يصعب تصديق ذلك إذا تحقق. يتوقع أن يكون «النموذج الفدرالي» الحاضن السياسي لتقسيم سوريا من داخلها. تقاسمها من الخارج يأتي تتويجاً لاقتسامها من الداخل. العراق نموذجاً. لبنان أمثولة.

جو بايدن، صاحب مشروع تقسيم العراق، لم يكن نبيّاً. بريمر نفّذ «تقسيم» العراق، بأدوات عراقية وليس وفق «نبوءة» بايدن. لا يخلق تقسيم من عدم، بل من «حواضر» الواقع. ومثل هذه الحلول، ولادة أزمات وجودية، تطيح بآخر «حصون» الوحدة: كيان كردي يستكمل عدته الاستقلالية. كيان سنّي رخو، في مخاض قاس، يفضي إلى اعتراف قهري به. كيان شيعي غير قادر على لملمة أطراف العراق. الحل الفدرالي في العراق، كي يتحقق، سيعبر على جثث العراقيين ودمائهم، وسيبث عنفاً وتباغضاً، يُضافان إلى البغض التاريخي المذهبي. حروب الهويات لإنشاء كيانات على قياساتها تطيح أولاً بالكيان السياسي الواحد، للدولة في العراق. ولكل مكوّن عراقي حليف يرعاه. إن حروب الحلفاء الخارجيين، تُخاض على أرض العراق، والنزف يطول.

لا ضرورة لاسترجاع ما آلت إليه الحالة اللبنانية: كيان واحد بأعطاب متناسلة. ما يفتته لا يجتمع في النظام. بلد محكوم من خارجه. كل ما فيه معلَّق على القوى الإقليمية. لا قرار يُصنع في الداخل. معروض على قارعة الانتظار، بهدف تسوُّل مساعدة تعيد إليه نصاب وحدته الهشة، وعودة الحياة، بحدها الأدنى، إلى مؤسساته، رئاسة وحكومة ومجلساً و… نفايات.

المقارنة قد تظلم سوريا. فهي لم تكن تشبه لبنان أبداً، وما كانت على صورة العراق. كانت شعباً واحداً. ولا مرّة قدّمت سوريا صورة اللاَّ دولة. بل الدولة كانت فائضاً قوياً على المجتمع. النظام كان ممسكاً بالقلب وبالأطراف. السيادة مصونة… العلة كانت في الاستبداد، وثقافة الخوف. الرغبة كانت في التخلص من الاستبداد، وليس التخلص من سوريا. ما حدث أن النظام استمرّ، على بقعة سورية، والاستبداد العسكري الميليشياوي التكفيري، أطاح الوطن والدولة ووحدة التراب والسيادة.

منطق التسوية هو السائد في المفاوضات. أولى الحقائق: لا عودة ممكنة إلى سوريا كما عرفها تاريخها. هذا فصل انتهى كليِّاً. وليس بمستطاع أحد أن يستعيد صورة سوريا الواحدة. النظام بجيشه غير قادر على توسيع رقعة تواجده. المساحة التي يسيطر عليها ضئيلة. حلفاء النظام منعوا سقوطه، ولم يتيسَّر لهم ولن… استعادة كامل «التراب الوطني». القصف الروسي رجّح كفة النظام، ولكن روسيا غير مستعدة لحرب مديدة، لإعادة سوريا إلى ما كانت عليه. مهمة مستحيلة عسكرياً، ومستحيلة دولياً. ماذا إذن؟ الحل السياسي هو الطريق لنهاية الحرب. فأي سوريا ممكنة؟

كما تكون الحروب تكن الحلول. كل حل سياسي يستمد شرعيته من القوى الشرعية المتبقية والقوى غير الشرعية المتواجدة في ميادين القتال وجبهات المواجهة. النظام وحدوي وعلماني ويصرّ على السيادة. هذا حقه وواجبه، ولكن تحقيقه ليس متوفراً. المعارضة مذاهب وأقوام وأقليات. للأكراد ما يقلّدونه في العراق. للقوى السنية المدعومة سعودياً وتركياً ما يوفر لهم حصة وازنة. وعليه، فهذه هي الصورة العراقية واللبنانية داخل الإطار السوري.

يصعب على النظام، أن يقبل بحلول غير سيادية، أو بسيادات مقسّمة. يستحيل عليه أن يقلّد لبنان. السلطة في لبنان، ليست في مؤسسات الدولة وقواها. السلطة موزعة على أفرقاء، يحكمون البلد، من خارج الحكومة. يفقد النظام مبرر وجوده إذا تنازل عن وحدة سوريا الداخلية ومركزية الدولة. أي اقتسام داخلي، تهديد للسيادة والسياسة. قوى الأمر الواقع العسكرية، لا تملك ناصية قرارها. النظام، لم يعُد سيد قراره. وقف إطلاق النار، جاء من روسيا وأميركا. خضع له مَن خضع. أو أُخضع مَن كان يرفض من قبل.

لقد فرغت سوريا من قواها. الخارج سيتحكّم بالداخل، عبر تحالفاته أو رعاياته. ستمارس القوى الإقليمية نفوذها برصيد داخلي فاعل. إيران من خلال النظام. السعودية وتركيا من خلال كيانات مسلَّحة، مدربة ومعقدنة إسلامياً.

إذا صحَّ ما قيل، فستصبح سوريا حاضنة التناقضات العنيفة ومسؤولة عن «عدالة» المحاصصة وما تنص عليه أعراف الحرب وقوانين «الفدرالية». ولعل أخطر ما تصاب به سوريا، إلغاء دورها. ستكون مهتمة بداخلها برعاية دولية وإقليمية. وأسوأ ما تحصل عليه عند ذاك، أن تصبح سياستها الخارجية شبيهة بالسياسة الخارجية اللبنانية، والتي عليها أن تراعي إيران والسعودية وتركيا وروسيا وأميركا، والأفدح، أن تراعي إسرائيل.

مَن يتصوَّر ذلك منذ الآن؟

سوريا هذه لا تشبه سوريا بالمرّة. إنها، نسخة مشوّهة عن «لبنان الكبير»، لا أكثر.