بات من قبيل العبث الحديث عن سورية بوصفها دولة موحدة على غرار ما كانت عليه قبل آذار (مارس)، أي تاريخ اندلاع الانتفاضة. لا يعني نفي الوحدة عنها القول بتغيير الحدود الجغرافية للكيان كما رسا عليه في القرن الماضي، لكن وحدة البلد تقاس هنا بمدى وحدته الداخلية بما هي تآلف وتوافق بين مكوناته المجتمعية والسياسية والعرقية والإثنية، وبمدى وجود سلطة قائمة تمثل السيادة بكل معانيها المختلفة، سواء في علاقاتها الداخلية أو في العلاقات مع الخارج. بهذا المعنى، افتقدت سورية وحدتها، وباتت أشبه بكانتونات متناحرة أو سائرة على طريق التناحر.
بعد حوالى سبع سنوات من الانتفاضة، وتحت وطأة تحولها انتفاضة عسكرية قام بها النظام بشكل أساسي، تبدو سورية اليوم كياناً ممزقة أشلاؤه ونهباً لقوى خارجية تتناحر للهيمنة عليه أو على أجزاء منه. كما تشهد انبعاثاً لقوى طائفية أو إثنية، عانت طويلاً من ديكتاتورية حزب البعث ومن الحرمان الذي كانت تشعر به قياساً على ما تناله مجموعات أخرى، فرأت في الفوضى الراهنة مناسبة لطرح مطالبها الانفصالية على أساس نوع من الاستقلالية الذاتية في أي تركيبة قادمة لسورية.
تخضع سورية اليوم لتقاسم نفوذ داخلي وخارجي، فعلى جبهة النظام الذي يسجل اليوم بعض الانتصارات في الجغرافيا، والذي يطمح لبسط نفوذ جيشه على كامل الأراضي السورية، هذا النظام «القوي» شكلاً هو الأضعف في قرارات السيادة والسلطة، بعد أن بات أسير القوى التي أمّنت له الانتصارات الموقتة. في المقابل، تبدو خريطة النفوذ السياسي والجغرافي والعسكري موزعة بين قوى تجهر بسيطرتها وهيمنتها. فإيران باتت تحتل مناطق أساسية تبدأ من الشمال السوري– العراقي وتمتد إلى العاصمة دمشق، معلنة بصريح العبارة أنها المتحكم الأساسي بسورية، وأنها تحتل العاصمة دمشق، وهو أمر صحيح بمعنى احتلال القرار السياسي والعسكري للنظام. إيران استثمرت في سورية مليارات الدولارات، ودفعت آلاف القتلى من جيشها، وهي ترى سورية بوابة السيطرة على المنطقة العربية، بل تعتبر أن مصير الأمن القومي الإيراني مهدد في حال خروجها من سورية، وأن مشروعها المذهبي قد قطع أشواطا مهمة من خلال تدخلها في سورية، ما يعني أنها ستقاتل حتى الرمق الأخير للحفاظ على مواقعها.
تركيا حسمت أمرها عبر اقتطاع شريط حدودي كاف في نظرها لمنع تدفق مقاتلي حزب العمال الكردستاني الدخول إلى أراضيها، وهي تعمل اليوم لتكريس مناطق جغرافية تمنع من خلالها قيام كيان كردي ذاتي، في وقت قطع الأكراد شوطاً كبيراً في قيام كيانهم الذاتي وذلك بدعم صريح وقوي من الولايات المتحدة الأميركية. أما روسيا، التي شكلت الداعم الأساس للنظام من خلال مساهمتها في احتلال الأراضي التي كانت المعارضة تسيطر عليها، أو من خلال منع القوى الدولية من اتخاذ قرارات تمس النظام، لا يبدو أنها مهتمة باقتطاع أراض، لا راهناً ولا مستقبلاً، لكنها حاسمة في بقاء قواعدها العسكرية على الساحل السوري، وتطويرها بما يسمح لها بالتدخل العسكري وممارسة النفوذ السياسي.
في مقابل هذه القوى، عادت الولايات المتحدة الأميركية إلى سياسة التدخل العسكري، بعد أن كانت مكتفية بالتدخل السياسي أو المعنوي. أدخلت قوات على الأرض، وحددت لها مناطق نفوذ في الجنوب السوري وعلى المثلث الأردني– العراقي– السوري، بل استخدمت قواتها الجوية لمنع النظام والميليشيات المتحالفة معه من التقدم إلى هذا المثلث.
كل ذلك يجري في ظل تراجع مواقع تنظيم داعش والقوى الإسلامية الأخرى، بعد أن تكبد خسائر وفقد مواقع في العراق وسورية، ما يشي بقرب انتهاء المعارك في هذا الميدان. كما يجري ذلك وسط التقلص الشديد بل والضمور لقوى المعارضة العسكرية، بعدما نجحت ضربات المحور الروسي الإيراني في تكبيدها خسائر فادحة وخسارتها مواقعها على الأرض.
صحيح أن الأعمال العسكرية في سورية ما تزال قائمة، تخف وتيرتها وتتصاعد وفقاً للوظيفة المطلوبة من التصعيد العسكري. هذا الأمر متلازم مع البحث الدائر حالياً في مصير الكيان السوري، لجهة تحديد مناطق النفوذ لكل قوة ومجموعة خارجية بالاستناد إلى قوى داخلية تدعمها. هنا يدور الحديث عن تقسيمات وتغييرات في الديموغرافيا بما يسمح بوجود مناطق متجانسة.
لا ننسى أن سورية كانت حتى الثلث الأول من القرن العشرين مقسمة إلى أربع دول، ما يعني أن اللعب على استحضار التاريخ الماضي لتقسيمها أمر لا يغيب عن البال، بل يستحضر رغبات قوى داخلية قد لا تريد لحكم البعث المركزي العودة للتحكم بها.
قد تحتاج الأزمة السورية إلى بعض الوقت لإنجاز «القص والتلزيق» لمناطقها ومجموعاتها السكانية، لكن ما يبدو شبه واضح أن الوحدة السورية التي كانت، باتت خارج الموضوع، ما سينتج عن التسويات إقامة كيانات أو كانتونات تحمل في جوفها كل عناصر الانفجار، في داخلها وفي علاقتها بالكيانات القائمة، كل ذلك في إطار الجغرافيا الحالية الممنوع التلاعب بها، ليس في سورية فقط، وإنما في المنطقة بكاملها.