لم يحرّك انقلاب ميزان القوى في شرق حلب واستعادة النظام للمدينة رغبة الرئيس بشار الأسد باستعادة السيطرة على كامل سوريا بقدر ما حرّك حنينه لاستعادة السيطرة على لبنان. تحركت ذاكرة النظام، بما اختزنت من مآثر بحق لبنان على امتداد أكثر من ثلاثين سنة، فكان لا بدّ من استثمار التعثّر السياسي اللبناني لمحاولة التذكير بالدور السابق. أجل، بلغت شظايا انقلاب الميزان العسكري في شرق حلب موقعين أساسيين في لبنان، ربما يعتقد النظام في سوريا أنّ له دوراً كبيراً في المحافظة عليهما. مفتي الجمهورية السورية أحمد بدر الدين حسون، وخلال زيارته للبنان إبان الأسبوع المنصرم، سمح لنفسه باتّخاذ القصر الجمهوري وبكركي منبريْن للتباهي بانتصار النظام في حلب، من دون أن يُقيم أي وزن أو اعتبار للأصول التي تقتضيها زيارته. لقد مارست كلّ من رئاسة الجمهورية والبطريركية المارونية إزاء التصريحين ما يمكن تسميته بأضعف الإيمان، فعممت التصريحين مقتطعة منهما العبارات المتعلّقة بحلب.
الرئيس بشّار الأسد لم يتأخر بعد ذلك في توجيه أكثر من رسالة للدولة اللبنانية، وكأن التمدّد السوري أو استثمار مرحلة ما بعد حلب غير متاح سوى على الاتّجاه اللبناني. اعتبر الرئيس الأسد «أنّ حلب ستغيّر مجرى المعركة كلياً في كلّ سوريا، وأنّ استعادتها تعني فشل المشروع الخارجي سواء كان إقليمياً أم غربياً، وأنّه لا يستبعد حصول مواجهة عسكرية مع تركيا إذا استمر تدخّل جيش النظام التركي في الأراضي السورية، وأنّ وجود شخص كالعماد ميشال عون يعرف خطر الإرهاب حول لبنان على اللبنانيين سيكون انتصاراً للبنان وانتصاراً لسوريا خاصة عندما يعرف هذا الرئيس بأنّه لا يمكن للبنان أن يكون بمنأى عن الحرائق التي تشتعل حوله ويتبنى سياسة اللاسياسة أو ما سميّت سياسة النأي بالنفس».
هل يريد الرئيس الأسد القول انّ تغيّر المعادلة الميدانية في حلب وفشل ما أسماه المشروع الإقليمي والغربي يعني تغيّر وضع حلفائه المشاركين في الحرب، وبالتالي تعديلاً في مركز الثقل السياسي في لبنان؟ وهل يريد الرئيس الأسد إلزامنا بالدخول إلى الميدان السوري لأن لبنان لا يمكن أن يبقى بمنأى عن الحرائق التي تشتعل من حوله، أم أنّ هناك دعوة لحلفائه بنقل الحرب الى الداخل اللبناني؟ طبعاً لن يوفّر النظام السوري جهداً لتهيئة الظروف الموضوعية لذلك، وهو قد نجح بذلك في سوريا من خلال وضع المجتمع الدولي أمام خيارين لا ثالث لهما، الحفاظ على النظام أو تصدير الإرهاب.
طموحات الرئيس الأسد ستُرخي بثقلها على استقرار الحكم في لبنان بصرف النظر عن مجريّات الميدان السوري سواء في تدمر أو في الشمال السوري. سقوط تدمر بيدّ تنظيم داعش والمواجهة التركية مع الأكراد بالرغم من الدعم الأميركي للفصائل الكردية بالتوازي مع المباركة الأميركية لعملية درع الفرات، هذا بالإضافة الى الدعم الأميركي للمعارضة السورية بما لا يسيء إلى توزيع الأدوار الروسي الأميركي وبما لا يهدد محافظة النظام على تفوّق موضعي في جبهات محدّدة، كلها تشي بتقاطع مصالح روسية أميركية معقد لا تملك كلّ من طهران وأنقرة ودمشق سوى الانصياع له.
يبقى أن نقول أن سوريا التي يدعونا الرئيس الأسد إلى عدم النأي عنها أضحت جمهورية تائهة في الجغرافيا، اختفت حدودها مع العراق من الأنبار حتى الموصل على إيقاع تمدّد دولة داعش الرقمية والعابرة للحدود بإرادة أميركية إيرانية، وتداخل شمالها مع طموح كردي دائم بإقامة دولة لا تجدّ مكاناً لها تحت الشمس وتشكّل مشروعاً جاهزاً للاستخدام في الأجندات الدولية ويحاصرها على الاتجاه اللبناني حلم توسعيّ يتناقض مع مشروع نفوذٍ إيراني ينافسه في الانقضاض على الدولة والتلاعب بتركيبتها التعددية. هذا طبعاً بالإضافة إلى خسارة إطلالتها المتوسطية التي أضحت روسية بامتياز ولمدة 99 سنة في حميميم ولاحقاً في بانياس وغياب أي خطاب يُشير إلى الاحتلال الإسرائيلي للجولان الذي تُمعن إسرائيل في استباحة أرضه ونفطه.
سوريا جمهورية تائهة في الجغرافيا فإلى أيّة جغرافيا يدعونا الرئيس بشار الأسد؟