لم تعد الأزمة السورية في عامها الخامس تخصّ حصراً سوريا، نظاماً ومعارضة وشعباً. في حرب سوريا، مثلما هي حال الحروب الطويلة والمعقدة، تتداخل المصالح والأهداف بين أطراف الداخل والخارج فيصبح الفصل بين المتنازعين وغاياتهم المتشابكة بالغ الصعوبة. الأمثلة المشابهة عديدة: لبنان طيلة خمسة عشر عاماً من حروب الداخل والخارج، والعراق وليبيا وأخيراً اليمن. وخلافا ليوغوسلافيا في التسعينيات، سوريا دولة مركزية في النظام الإقليمي، وهي تجاور تركيا وإسرائيل، ولها علاقات وثيقة مع إيران وروسيا منذ عقود، بينما انهيار يوغوسلافيا جاء بعد انتهاء الحرب الباردة وتفكّك الاتحاد السوفياتي وبعد التحولات الكبرى التي شهدتها أوروبا. في يوغوسلافيا السابقة مصالح أوروبا كانت على المحكّ وكذلك الولايات المتحدة، ما أتاح إمكانية الحسم العسكري بدعم دولي وانبثاق دول جديدة مرشحة للانضمام الى الاتحاد الاوروبي أو الى حلف شمال الاطلسي، أو الى الاثنين معا.
اما في سوريا فالنزاع دائر بين قوى متقاربة في قدراتها الذاتية وفي الامكانات المتاحة لها لتحقيق اهدافها المعلنة. النظام محاصر، وإن استرجع اخيرا بعض الزخم. المعارضة مشّتتة لا يجمعها سوى هدف اسقاط النظام. والتنظيمات السلفية المسلحة تخوض حروبها الجهادية لغايات تتجاوز الاوضاع السورية. حروب اهلية واخرى عربية واقليمية بأبعادها الدولية تُخاض في سوريا، ساحة الحروب المفتوحة للسوريين وللوافدين، افرادا وجماعات. فبعد ايران وتركيا و «حزب الله» وعدد من الدول العربية والغربية والتنظيمات السلفية المتطرفة، ها هي روسيا تنضمّ الى القافلة. لا سياسة واضحة للادارة الاميركية في سوريا سوى قرار عدم التدخل العسكري المباشر بعد تجربة العراق الفاشلة، ما جعل الساحة مفتوحة للمتحاربين المدعومين من دول المنطقة، لا سيما ايران المؤيدة للنظام، وتركيا المناوئة له، وهي التي سهّلت دخول الجماعات التكفيرية الآتية من العالم اجمع الى سوريا. وفي المحصّلة، قتل ودمار وتشريد الناس الابرياء وتحويلهم لاجئين في بلدهم وحول العالم.
تَوافَق المجتمع الدولي على محاربة ارهاب «الدولة الاسلامية» في العراق وسوريا، واستنفر مؤخرا بسبب ازمة اللاجئين التي وصلت الى اوروبا. وبين تردّد واشنطن وادوار انقره الملتبسة، وبين تناقضات السياسات العربية والغربية، لم يبق في ميدان التصدي الفعلي لداعش سوى روسيا. وهي ليست بحاجة الى دعوة رسمية من اي طرف دولي، بعدما كسرت واشنطن القاعدة في غزوها العراق بذرائع ملفقّة، كما ان موسكو مجيّشة لقتال التنظيمات الاسلامية المتطرفة منذ حرب الشيشان في التسعينيات. فلا غرابة ان يكون النظام السوري ابرز المستفيدين من العمليات العسكرية الروسية وان تكون طهران متعاونة، ودول الخليج معارضة، والدول الغربية مندّدة، لكن مؤيدة ضمنا بعدما اصبح الفلتان في سوريا مصدر خطر على استقرارها ورفاهها.
روسيا تدعم النظام، وهذا ليس سرا او امرا مستجدا. والحملة الجوية الروسية كي تكون فاعلة فلا بد من ان تترافق مع عمليات برية يقوم بها الجيش السوري، لا سيما بعد انشغال تركيا باستهداف الاكراد، ابرز خصوم داعش. وللتدخل الروسي تداعيات اقليمية ودولية، الا ان سوريا ليست افغانستان الذي اجتاحها الجيش السوفياتي في زمن الحرب الباردة. فباستثناء التنظيمات السلفية الجهادية، لجميع اطراف النزاع في سوريا اجندات ملتبسة، المعلَن منها يتناقض مع المستور. يبقى ان الثابت في الحرب الدائرة امران: الفراغ الذي احدثه تراجع النظام والدولة والدعم الخارجي للاطراف جميعها الى حدّ الاستتباع. الفراغ تكفّل بملئه داعش، والخارج اعاد خلط اوراق الازمة بعدما اعطتها موسكو دفعا عسكريا جديدا. الا ان الحرب مضبوطة دوليا، متفلّتة اقليميا، ولا حدود لها على يد خاطفي الدين. تنظيم الدولة الاسلامية وأمثاله لا يرى في سوريا سوى ارض جهاد، شأنها شأن افغانستان، ليبيا، مالي أو اي بلاد اخرى، ولا يكترث بأولويات الحكم أو بمطالب المعارضة، ولا يسعى طبعا الى إقامة نظام ديمقراطي تُصان فيه حقوق الانسان. داعش يحاكي خالق الارض والسماء، بينما روسيا وسواها من اطراف النزاع طموحاتهم «ارضية».
لم تدخل روسيا الحرب لتخرج بلا ثمن، شأنها في ذلك شأن اي طرف خارجي انخرط في النزاع. الواقع ان اي حلّ للازمة السورية يقاس بميزان الاثمان. روسيا باتت اليوم الممرّ الالزامي الاول للحلول واثمانها، فاذا كان ثمة تسوية ممكنة للازمة السورية فمفاتيحها تبقى بيد اصحاب قرار بشر وليس من يدّعي العصمة الإلهية ويحترف قتل البشر.