Site icon IMLebanon

إشكالياتٌ تُثيرها أحداث سوريا

 

 

 

بعد الوقائع الجديدة التي فرضت نفسها في سوريا، سواء لجهة تبدّل النظام الحاكم أو لجهة الموقع السياسي الذي ستتموضع فيه السلطة الجديدة، وبانتظار جلاء الصورة وحسم الأجوبة عن الأسئلة القلقة والكثيرة، لا بدّ من تناول بعض النقاط:

1- ما حدث في سوريا ليس وليد ساعة، وإنما هو نتاج برنامج أعدّته أطراف إقليمية ودولية تقاطعت مصالحها على تغيير السلطة في سوريا لما يفتح لها ذلك من آفاق متعددة، ويُحقق مصالح تلك الأطراف أو بعضًا منها تبعًا لسطوة كل طرف وفاعليته. ومن الطبيعي أن يحصل الشعب السوري على بعض مصالح له في التغيير، إلا أنّه سيكون الطرف الأكثر تحمّلًا لوزر الخلافات أو التنافسات التي قد تحصل بين بعض متعهدي تنفيذ البرنامج السلطوي الجديد.

2- العدوانية الصهيونية ضدّ سوريا وسيادتها ودورها سارعت إلى تأكيد استهدافاتها حين شنّ العدو سلسلة غارات جوية استهدفت كل مراكز القدرة الفعلية أو الواعدة للقوات السورية، وألغت المنطقة العازلة في الجولان، ونقضت اتفاقية فك الاشتباك الموقّعة عام 1974، ولوّحت بدعم بعض الأصدقاء من مكوّنات الشعب السوري، الأمر الذي يُشير إلى رغبة العدو في التدخل في صيغة تقاسم الغنائم في ترتيب النظام والسلطة الجديدين في سوريا.

3- النفاق الأميركي الذي لم تعد الأقنعة قادرة على تغطيته لشدّة قذارته وحقارته، حاول أن يُظهر الإدارة الأميركية كأنّها فوجئت بما حصل من أحداث في سوريا، وتتوجّس من المخاطر وعدم اليقين إزاء نتائجه، وأنّها معنيّة بالتواصل مع كل أطراف المعارضة المسلحة، وأنّ بعضها يستحق لحسن سلوكه أن يُرفع اسمه عن لائحة الإرهاب، وأنّها وأنّها وأنّها… وأخيرًا أنّها تؤكد على وحدة سوريا وعلى الأمن والاستقرار فيها. ولم تكلّف الإدارة الأميركية نفسها عناء مطالبة إسرائيل ولو بالتريث، بَدَلَ الاعتداءات والغارات والانتهاكات البرية التي مارستها ضدّ سوريا، بل ضدّ كل بنى النظام والقانون والمبادئ الحقوقية الدولية.

4- قيل إنّ توقيت التحرّك باتجاه إدلب وحلب ثمّ حماة، قد تمّ تحديده بعد اتفاق وقف العدوان الصهيوني على لبنان، حتى لا يُقال إنّ المعركة ضدّ السلطة في سوريا من شأنها أن تصبّ نتائجها لمصلحة العدوّ الصهيوني قبل وقف العدوان، فجرى التريث لما بعد وقف العدوان تلافيًا لذلك التوهم الذي قد ينشأ لدى البعض. على الأقل هذا ما يُبرّر به مُطّلعون أتراك توقيت الهجمة العسكرية بُعيد إعلان وقف النار في لبنان، وقد يكون ذلك صحيحًا بالشكل، إلا أنّ الأهم أنّ أي موقف سياسي أو إعلامي تجاه العدو الصهيوني لم يصدر ولم يجرِ التعليق على الاعتداءات الصهيونية على الأرض السورية ولا على القدرات العسكرية السورية وكأنّها أرض وقدرات نظام الأسد ولا شأن لسوريا بهما.

5- لا داعي لاستعجال التحليل حول مواطن التباين بين المقاومة الإسلامية في لبنان وفصائل المسلحين والمعارضين السوريين الذين أصبحوا بعد 07-12-2024 في موقع السلطة في سوريا… ذلك أنّه قيل الكثير من التخرّصات والادعاءات والأكاذيب أيضًا حول هذا الأمر، إلا أنّ مما لا بدّ منه ابتداءً، هو تأكيد المقاومة الإسلامية حق الشعب السوري الشقيق في تقرير مصير نظامه السياسي ومصيره أيضًا، وأنّ التغيير ينبغي أن يُعبّر عنه الشعب السوري بكلّ مكوناته وتشكّلاته. كما أنّ وحدة سوريا هي أمر أساس لا يجوز مسّه. فضلًا عن أنّ موقع سوريا ودورها ورؤيتها الاستراتيجية وعلاقتها الإقليمية والدولية هي معايير يستند إليها كل من يُتابع الوضع السوري ليبني على الشيء مقتضاه.

6- إنّ وحدة الشعب السوري والتحامه مع النظام السياسي والسلطة التي تدير شؤونه ومصالحه، يزيدان من قدرة سوريا ويُعزّزان موقعها وفاعليتها، وهذا لا يتأتى حين يكون النظام منقادًا لتبعية سياسية تلزمه الخضوع ورهن السيادة والحرية والتنمية بما يستجيب له من شروط للعدو الصهيوني ومن يقف خلفه، أو يضغط عليه لتطبيع العلاقات معه والاعتراف بشرعية كيانه المحتل والغاصب لفلسطين والمتنكر لسيادة دول المنطقة ولحقوق أبنائها في أرضهم وفي تقرير مصيرهم، وفي مقدمتهم الشعب الفلسطيني.

7- إنّ التطلّع نحو الحرية والعدالة يكتسب صدقيته حين يكون شاملًا ومعياريًا وليس مجتزأً واستنسابيًا، فمع التبعيض والاستنساب لا تتحقق حرية ولا عدالة، وإنما تتحوّلان إلى شعار دعائي لبضاعة زائفة.

من يريد الحرية السياسية ينبغي أن يكون سياديّ التوجّه والالتزام الوطني، ومن ينشد العدالة لمواطنيه، ليس له أن يغضّ الطرف عن ظلم يقع خارج وطنه وخصوصًا إذا كان يُدرك أنّه سيتسرّب إلى بلده.

إنّ مشكلة الشعوب، خصوصًا في دول العالم المستضعف، ليست في غياب الشعارات النهضوية وإنّما في البرامج العملية الملتزمة بصدقية مضامين تلك الشعارات، وكذلك في النموذج القيادي الذي يتعارض أو يتباين أداؤه مع الاتجاهات السليمة التي تجسّد تلك الشعارات.

والمنصف ليس له أن يستعجل الأحكام على تجربة جديدة لسلطة تضم تناقضات سياسية وتتركّب في أعقد بلد على مستوى الديموغرافيا والجغرافيا والسياسة الدولية في منطقتنا العربية تاريخًا وحاضرًا، وإنّ المؤشرات تكاد عبر المواقف الصادرة والإجراءات المتخذة والمنهجية المعتمدة ولغة الخطاب المتداول تُنبئ وترسم معالم المشهد السياسي المقبل. ومع ذلك، فلا ضير في متابعة الأمر والتريث والتقاط النقاط والمسائل التي تمثل مساحة التقاء أو اهتمام مشترك، في مقابل النقاط المُعضِلة التي تدفع نحو الافتراق.

8- صورة العالم والقوى الدولية التي تتحكّم بنظامه وقوانينه وقيمه، ظهرت على حقيقتها ومن دون مساحيق تجميل، عبر متابعة فصول العدوان الصهيوني المتوحش وجرائم الإبادة والتطهير العرقي والعنصري، وسط صمت يختفي وراءه التأييد والتبرير وإعطاء الفرص لإنجاز المهمة بأقصى سرعة، من دون إرباك أو انشغال بال، كما يتلطى خلفه الخذلان والتواطؤ والاستعلاء والحقد وممارسة الطغيان والاستبداد والدوس على القانون والمبادئ والقيم.

بعد ذلك كله، يصبح من الغباء الركون إلى ما يصدر من ردود فعل كلامية على أحداث سوريا الأخيرة مدحًا أو حقدًا.. فعالم هذه القوى الدولية اليوم هو عالم الخداع والتضليل للسيطرة والهيمنة والتحكم بمصائر الشعوب. والسياسات عندهم هي من أجل توسّل أهوَنِ السبُلِ لتحقيق عالمهم وعلى البشرية السلام.

9- إنّ الدور الإبادي الذي جرى تلزيمه للعدو الصهيوني في غزة بعد طوفان الأقصى، بغطاء أميركي وغربي استكباري وعنصري وبدعم غير محدود وعلى كل المستويات، وضمن برنامج مدروس ومتفاهم عليه من كل أطراف قوى التسلط والاحتلال والهيمنة، هو دور استئصالي للمقاومة ولامتداداتها، بدءًا من غزة وإلى حيث يمكن أن تطال يد العدوان في المنطقة، بحسب التطورات والظروف والفرص. وهو دور يحظى بالتسامح الغربي عن كل الانتهاكات والجرائم والتجاوزات للقوانين والأعراف والقيم والمبادئ، طالما أنّ هدفه هو القضاء على بنية المقاومة وما يتصل بها من قيادات وقدرات وتشكلات تناهض هيمنة أميركا والغرب على المنطقة والعالم، وتستهدف ذراعهم وحارس مصالحهم الكيان الصهيوني الغاصب والمحتل. ولو لم تفتح المقاومة الإسلامية في لبنان جبهة دعم وإسناد غزة وتُسهم في تعقيد ظروف وحسابات العدوان الصهيوني وعرقلة تقدّمه لإنجاز أهدافه في القطاع، ولولا سحب عنصر المفاجأة من يد العدو وإفشال خطته في التقدم نحو مجرى نهر الليطاني، ولولا الثبات الأسطوري للمقاومين على محاور الخيام وعيترون وبليدا وميس الجبل وعيتا الشعب والبيّاضة واستبسالهم في منع العدو من التوغل العسكري بالدبابات والمشاة رغم الإطباق الجوي الكامل على جبهة المواجهة، لما كان العدوّ يستجيب لتقدير أميركا الميداني ونُصحها له بوقف العدوان والاتفاق مع لبنان على ذلك. ولو كانت المقاومة قد انتظرت فترة ولم تساند غزة منذ بداية العدوان عليها لكان العدو قد تحيّن الفرصة وانتهز ذريعةً ما مفتعلة ليباغت المقاومة بما فاجأ به الجميع في سوريا حين وجد الفرصة سانحة للاستغلال.

إنّ المشروع الصهيو أميركي – الغربي الاستكباري لا تستنزفه إلا مقاومة شعبية جادة تنشأ في كل بلد من بلدان منطقتنا حتى لا تخضع دول المنطقة لسياسات وإملاءات العدو وحلفائه، والدعوة إلى التخلي عن المقاومة هي دعوة للاستسلام ليس إلا، للعدو ومشروعه، حاشا أن يستجيب لها الأحرار الشرفاء.

10- التيار السياسي الذي يتولى إدارة السلطة البديلة اليوم في سوريا هو أقرب فكريًا إلى التيار السياسي الذي حكم مصر بعد سقوط نظام حسني مبارك، وبغضّ النظر عن تقييم تلك التجربة القصيرة في مصر، إلا أنّ أميركا والغرب وتيار الهيمنة المتسلط والطامع في المنطقة لم يستطع أن يهضم إطالة فرصة السلطة البديلة هناك، كما لم يستطع أن يستسيغ مجرد التفاهم والتنسيق أو التحاور مع تلك السلطة. أفَتراه اليوم يمكنه فعل ذلك مع التيار المتصدّر لإدارة السلطة الجديدة في سوريا؟ أم أنّ هناك متطلبات ينتظر أن ينجزها هذا التيار خلال فترة محدودة، ثم يتم إقصاؤه وتركيب السلطة التي تمثّل بدون قفازات وبشكل مباشر النفوذ الأميركي والغربي؟ إنّ مقبل الأيام سيجيب عن هذه الإشكالية، لكن اقتضى الأمر هذا الإلفات.

11- نفهم أن يتفاعل الناس في سوريا مع المتغيّر الجديد، بنسب متفاوتة وبخلفيات مختلفة، وأن يكون الجامع لتفاعلهم هو الأمل بتحقيق أحلامهم وآمالهم في الأمن والسيادة والكرامة والعدالة وحكم القانون. وعليه، فإنّ هذه الآمال لا يختصرها مجرد تبدل السلطة في سوريا، بل تقتضي صدور برنامج عام وشامل يخاطب الناس في سوريا والعالم من حولها ليعبّر عن منطلقات التغيير وسياسات الحكم الجديد والتزاماته المبدئية والسياسية والأخلاقية، ويفصح عن ضوابط علاقاته مع الآخرين قوى ودولًا ومنظمات دولية، وعن ثوابته تجاه القضايا الساخنة في العالم وفي المنطقة. هذا الأمر يتيح للناس التعبير عن أحلامهم ومستوى تفاعلهم وتوقعاتهم، ويُشكّل وثيقة التزام من الإدارة الجديدة للسلطة يستطيع الشعب في سوريا وكل المتابعين أن يحاكموا التجربة الراهنة على أساسها شكلًا ومضمونًا وممارسةً.

رئيس كتلة الوفاء للمقاومة*