Site icon IMLebanon

سورية: هل يشبه اليوم البارحة؟

التاريخ لا يعيد نفسه. لكننا أحياناً نتكئ على ذكريات أحداثٍ ماضية لنضفي دلالات عميقة على أحداثٍ تجري الآن. أو هكذا على الأقل تبدو الأمور اليوم فوق سورية وعلى أرضها. فهذا البلد المنكوب أصبح ساحة الصراعات المفضّلة بين القوى العالمية التي تصفّي حساباتها في ما بينها على حساب سورية وأهلها وعمرانها. الدول العالمية والدول الإقليمية وحتى إسرائيل (بطريقة مخاتلة)، كلّها متورطة بطريقة أو بأخرى في الحروب الدائرة في سورية: طيرانها يقصف، أو جنودها يقاتلون على الأرض أو يخدمون كمستشارين لدى واحد من «الجيوش» المتقاتلة، ومساعداتها العسكرية تذهب الى هذا الطرف أو ذاك في محاولات عشوائية لتغيير موازين القوى.

أما على الأرض، فإضافة إلى المقاتلين الشيعة الذين يحاربون مع النظام من إيران وأفغانستان وطاجكستان وباكستان، وبخاصة لبنان والعراق، هناك محاربون سلفيون جهاديون، وسنّة بغالبيتهم العظمى، من أكثر من خمسين جنسية من أفريقيا وأوروبا وآسيا، يحاربون مع واحد أو آخر من التنظيمات الإسلامية المتشدّدة. ويبقى ضحايا الطرفين بمجملهم من السوريين المدنيين للأسف.

تبدو سورية اليوم كلوحة أبوكالبتية مظلمة: خراب ودمار وقتل وقمع وتشريد، وصراعات ما انفكّت تتكاثر وتتشعّب، بحيث أن غالبيتها فقدت ارتباطها بأهداف الثورة الأصلية التي اندلعت عام ٢٠١١ مطالبة بالحرية، وأصبحت تتمحور حول من يمكنه أن يسيطر على أكبر رقعة من الأرض «المفيدة»، أو يهيمن على أقوى «جيش» محارب على الأرض. وفوق هذا المستوى من التنافس الدموي المحلّي، مستويان آخران دوليا التوجّه والأهداف، ابتدآ في السنتين الأخيرتين بالتسبّب بدمار أكبر وضحايا أكثر. المستوى الأول هو الحركة الجهادية العالمية التي قامت منظمتها المهيمنة اليوم، «الدولة الإسلامية»، بإعلان خلافتها على أرض سورية وعاصمتها الحالية في الرقة، ومدّت مجساتها القاتلة إلى كل أرجاء المعمورة، إما مباشرة أو من طريق تنظيمات محلية بايعتها بالولاء وانطلقت تنشر رسالتها بالتفجير والقتل. أما المستوى الثاني من الصراع، فهو وإن تحجّج بمحاربة الإرهاب، فهو أيضاً يعكس الوضع العالمي للخلاف البارد بين الولايات المتحدة وحليفاتها الأوروبية وروسيا الجريحة الكرامة والمنتفضة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، والقوى الإقليمية التي تتنافس من أجل مد نفوذها على مساحات متراكبة من التخريجات الهوياتية الجديدة، من الهلال الشيعي إلى الرابطة السنية إلى الجامعة العربية المزمنة، إضافة طبعاً إلى الخلافة التي ما زالت «تتمدد».

ما يجري اليوم في سورية يعطي الانطباع بأن بعضاً من هذه الصراعات امتدادات لصراعات ماضية، إليها تعود لتبرير عنفها وحشد التأييد العاطفي بين جماهيرها، ومنها تستقي محازبيها الذين يظهرون أحياناً استعداداً مدهشاً للموت في سبيلها. بعض هذه الصراعات ألفية ونبوءاتية مثل ثارات الحسين والدفاع عن مراقد آل البيت التي استخدمها حزب الله وغيره من الميليشيات الشيعية، وربما إيران نفسها، لتبرير تدخلهم إلى جانب النظام، أو مثل استعادة اللحظة التأسيسية لدولة الرسول في المدينة وإحياء الخلافة ودحر الكفار والمرتدين التي يعلنها تنظيم «الدولة»، و «جبهة النصرة» بصوت أخفت، كهدف نهائي.

بعض هذه الصراعات تاريخية وقديمة، تبدو كأنها لم تفقد الكثير من قوة تأثيرها، على رغم تغيّر الدول والمفاهيم. فالأنظمة العربية التي قاتلت إيران مواجهة أو مواربة، والتيلي – إسلاميون على شاشات قنواتهم، ما زالوا يستخدمون اسمي «المجوس» و «الصفويين» في محاولة حثيثة لربط تعنّت إيران الإسلامية اليوم بعداوة تمظهراتها السابقة على زمن الفتوحات الإسلامية المبكرة أو فترة ما بعد التشيع، عندما أجبر الشاه اسماعيل إيران برمتها على التحوّل إلى المذهب الشيعي الاثني عشري في بداية القرن السادس عشر. وطبعاً يقابل ذلك بعض من الأوصاف المهينة التي تلصقها بعض الميليشيات الشيعية غير العربية بأعدائها العرب السنة مثل التكفيريين وأحياناً «الخوارج».

لكن بعض الصراعات على أرض سورية تظهر كاستكمال لصراعات قريبة في الزمن، بدا وكأنها حسمت بسقوط السلطنة العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى، ولو أن لها صدى واضحاً في الأحداث الأخيرة. التحالف الدولي، وروسيا معه هنا، مثلاً، يشبه إلى حدّ كبير في خطوطه العريضة التحالف الأوروبي الذي نشأ في أربعينات القرن التاسع عشر، حين لم تكن الولايات المتحدة قوة عالمية، لردع حاكم مصر المغامر محمد علي باشا، وإجباره على سحب جيشه من سورية وتحجيم قوته لمصلحة الدولة العثمانية، رجل أوروبا المريض والمطواع الذي لم يلبث طويلاً أن انهار وتقاسمت الدول الأوروبية مقاطعاته العربية الشاسعة. والتوتر الشديد الذي سبّبه إسقاط سلاح الجو التركي مقاتلة السوخوي الروسية، يبدو وكأنه حلقة جديدة من الصراع المرير بين روسيا القيصرية والسلطنة العثمانية، الذي تتالى فصولاً على مدى أكثر من ثلاثة قرون ابتداءً بنهاية القرن السادس عشر حتى نهاية الحرب العالمية الأولى، والذي خسرت السلطنة خلاله معظم أراضيها في القوقاز والبلقان، وكادت أن تخسر اسطنبول نفسها عام ١٨٧٨. وإذا كانت الظروف اليوم تستبعد مواجهة مباشرة لتكلفتها المريعة، فالقيصر والسلطان الحديثان يتصرفان بنزق لا يختلف كثيراً عن تصرفات سابقيهما، ويلعبان لعبة خطرة على الأرض السورية ربما أدت إلى تمزيق البلد بين البيادق الصغيرة المتقاتلة تحت إشرافهما.

يبقى هناك صراع واحد لم ينته بعد ولا توجد له سابقة في تاريخ سورية الحديث: تخليص البلد من العسف والاستبداد والتكفير والعنف في آن، وإعادة بنائه على أساس المواطنة المتساوية. إعادة البناء هذه تتطلّب إرجاع كل هذه التواريخ المتصارعة على الأرض السورية إلى مكانها الصحيح، الماضي، والانطلاق نحو مستقبل متحرّر من أعباء أساطيرها ونبوءاتها وحاملي خيباتها وآمالها وحساباتها التي لم تُصفّ، كما فعلت كل الأمم المتصالحة مع نفسها وحاضرها.