يتعامل الرئيس بوتين مع حادثة التحرش التركي (المحاط الأطلسي على الأرجح سلفاً بها وموافقاً عليها) بهيبته وكأنما طائرة الـ «سوخِوي – 24» التي تمّ إسقاطها من جانب طائرة حربية تركية يوم الثلاثاء 24 تشرين الثاني 2015 منزَّهة عن الإسقاط من أي طرف وبالذات تركيا جارة سوريا، وأنها كانت أشبه بـ «حمامة سلام» أو مستشفى في طريقها لإسعاف أطفال ومسنين حلت بهم مصيبة في منطقة نائية ولا مَن ينقذهم سوى إرسال طاقم طبي في طائرة محمَّلة بالأدوية والأغذية والبطانيات، مع أن هذه الطائرة التي تمّ إسقاطها كانت في طريقها إلى القاعدة التي إنطلقت منها بعدما أسقطت عشرات الصواريخ فوق أهداف ليس واضحاً ما إذا كانت «داعشية» أم هي غير ذلك تماماً، أو أنها في طريقها لرمي أهداف بالحمم الصاروخية تقتل مَن تقتل وتدمر ما تدمر وتحرق الأخضر واليابس، ثم جاء التعرّض من جانب طائرة حربية تركية لها تعطيلاً لهذه «المهمة الإنسانية» التي تقوم بها.
ويتعامل الرئيس بوتين مع حادثة التحرش بالمهابة التي لـ «القيصر» الجديد، وكأنما هو أحد رموز التسوية التي يتباطأ إنجازها للمحنة السورية مع أنه كان على مدى أربع سنوات حافلة بالقتل والتدمير والتهجير عنصراً فاعلاً في إدامة هذه المحنة. ونقول ذلك على أساس أنه لم يترك محاولة لوقْف إطلاق النار إلاَّ وعطَّلها بإستعمال الـ «الفيتو» الذي يملكه وبذلك تساوى بفعله هذا مع الـ «فيتو» الصيني ومع الذي يفعله الجانب الأميركي وأحياناً البريطاني إزاء أي مشروع قرار يدين العدوان الإسرائيلي. وحتى إذا عُرض مشروع قرار من شأن الأخذ به تسهيل أمر تحقيق تسوية للصراع العربي – الإسرائيلي فإن الـ «فيتو» يتقدّم في حال إعترضت إسرائيل على مشروع القرار هذا.
ويتعامل الرئيس بوتين مع حادثة التحرش به وكما لو أنه يريد خيراً لسوريا مع أن مبتغاه هو إستعمالها موطئ قدم وأرض قواعد يقايض بها أميركا ودول أوروبا، مواقف تفيد المواطن الروسي وتُلحق الضرر بالمواطن السوري المغلوب على أمره.
من الطبيعي أن تتسبب حادثة التحرش بمهابته بالمزيد من الغضب في نفسه، خصوصاً أن الجرح الناشئ عن حادثة تفجير الطائرة الروسية في سماء سيناء لم يندمل بعد. لكن ثمة نقطة بالغة الأهمية وهي أن الحادثة الثانية إستهدفت هيبته كوْنها لمست السلاح الجوي الذي هو رمز «الواجب الإنساني» الذي قرّر أن يؤديه في سوريا عوض تأدية الدور النظيف المطلوب منه القيام به. وهكذا فإن الهيبة المجروحة من حادثة طائرة السيّاح العائدين من «شرْم الشيخ» تزايدت نزْفاً بعد حادثة إسقاط الـ «سوخوي – 24» بصاروخ تركي فيما هي في طريقها لتنفيذ طلعة جديدة تضاف إلى مئات الطلعات التي جرى تنفيذها بينما الأزمة تراوح مكانها وفيما حال الدور الروسي مثل حال الدور الإيراني من قبل، أي عدم القدرة على الحسم وإطالة الأزمة لعل في الإمكان تقليل منسوب الخسارة.
ويبقى السؤال الذي تتنوع الإجابة في شأنه وهو: ما الذي يجعل الرئيس بوتين، الذي زاده التعامل السعودي السخي معه وكذلك السخاء الكويتي فالإيراني حديثاً إنتفاخاً لا يقتنع بأن الذي سيصيبه من مغامرته في سوريا هو مثل الذي أصاب أميركا من مغامرتها في فيتنام.. وتلك حال أي نهاية غير كريمة عندما يكون الدور غير نظيف على الإطلاق.
وما الذي جعله يُبادر فوراً إلى الثأر سياسياً وإقتصادياً فيطلب من وزير خارجيته سيرغي لافروف عدم السفر إلى تركيا على نحو ما هو متفق عليه وذلك للتشاور في الأزمة السورية وبذلك بدت عملية إسقاط الطائرة الحربية الروسية وكما لو أنها لنسْف فكرة التشاور، ثم يوسِّع مساحة الثأر لتشمل الأمريْن اللذيْن يوجعان الجانبيْن على أن يتحمل كل جانب تداعيات العقوبات وهي النفط والغاز الروسي لتركيا والتعاون النووي معها والخضروات والسلع الغذائية والتجارية التركية، على أنواعها لروسيا. وبين هذه وتلك سياحة الروس إلى تركيا التي سيكون تعليقها من جانب بوتين ثأراً من أردوغان ضربة موجعة بعض الشيء للقطاع السياحي التركي كما تلك الضربة التي تتواصل وجعاً للسياحة في «شرْم الشيخ» جرَّاء تعليق السياحة إلى مصر بعد الذي جرى للطائرة الأُخرى التي إنفجرت بعد دقائق من مغادرتها مطار «شرْم الشيخ» متوجهة إلى بطرسبورغ وقضى فيها العشرات بينهم نساء وأطفال.
من الواضح أن إكتفاء الرئيس بوتين بالثأر على النحو الذي أوردناه هو لتفادي إقحام حلف الأطلسي التي تركيا من أعضائه في الأزمة. ولكن هل معنى ذلك أن الأمر سينتهي بمفردات أردوغان التي هي ليست إعتذاراً يرضي معنويات بوتين أمام شعبه وجيشه وإنما هي بين المكابرة والإعتذار من أجل ألاَّ يأخذ الثأر إقتصادياً مداه كون تداعياته تؤذي اللاعبيْن… المتلاعبيْن بسوريا الوطن والشعب فلاديمير بوتين ورجب طيب أردوغان؟
من دروس التاريخ إن الذين يتلاعبون بأقدار الآخرين أوطاناً أو شعوباً يدفعون الثمن… ولو بعد حين.
… وللحديث بقية حول هذه المناطحة بين «قيصر» تربى ماركسياً و«سلطان» جاء إلى قمّة السلطة على جناح التراث الإسلامي.