Site icon IMLebanon

سوريا.. إلى مزيد من الحروب

«لا تنسَ تعداد القتلى بعد كل جريمة. نحن رعايا القتلة. منذورون للموت. الحرب وجدتنا في قائمة الجثث. حُشرنا فيها عن سابق تصوّر. ولا تحسبنّ الذين قاتلُوا وقتلُوا أحياء يرزقون. ولا تخبرنَّ التاريخ أن أبطالا يبتكرون المعارك الفاضلة. حثالات مضادة للحياة. الأرض ستحفظ طعم الأبرياء وعطر المنازل وقامة الحارات ومناديل الوداع وأمهات الأيام المترعة. الحروب، انتحارات قذرة… حدث كل ذلك عندما ارتطمت المدينة بجثثها المزمنة».

هذه كلمات وجدت في بقايا رسالة تحت ركام في مدينة حلب. لا تعليق… أما بعد:

غدا، وما بعده، معارك أخرى في حلب، وسواها من المدن والبلدات السورية. يبدو أن حظ سوريا سيئ جداً. يراهن الأفرقاء على انتصار حاسم. النظام ومن معه من جهة، المعارضة ومن معها من جهة أخرى. لم يقتنع أحد بعد أن الانتصار غير ممكن، وأن الحلول العسكرية ليست متاحة، خمس سنوات ونصف ليست كافية لكتابة نص يبدأ بفقرة وحيدة: الانتقال إلى الحل السياسي.

كأن سوريا في بداية الحرب. النظام مصمم على هزيمة المعارضة، بأشكالها كافة، والمعارضة مصممة على اسقاط النظام. لا هذا يتحقق ولا تلك قابلة للتنفيذ. والأسباب عديدة. حلفاء الطرفين لم يصلا بعد إلى صيغة توافقية، ولا انتزعا تنازلات من النظام أو من المعارضة، ثم، وهذا هو الأهم، أن إيران لم تتعب بعد، وأن تركيا لم تنعطف بعد، وأن السعودية لم تتعقًّل بعد، وأن حلفاء الفريقين يخوضون حروبهم بالواسطة، من دون ان يكتووا بنيرانها. ولا يبدو في الأفق القريب، أي تفاؤل في قضايا الخلاف ما بين إيران والسعودية.

انها الحرب بعد السنة الخامسة… وغداً، وما بعده، حروب أخرى. السوريون يدفعون الثمن. لا نهاية مرئية لهذه الجلجلة. أكثر من 290 ألف قتيل، وسبعة ملايين سوري بلا سوريا. عار بشري، ومأساة فريدة، لا شبيه لها، منذ الحرب العالمية الثانية.

أما بعد:

التسوية مؤجلة. الرياض ما تزال في أوج قوتها. من يظن عكس ذلك يغش نفسه. هي قابضة على الزناد لا تتوقف عن ممارسة الحرب. اليمن يكابد منذ عام ونيف والانتصار مستحيل، ومع ذلك، فالحرب مستمرة. تراهن السعودية على حل تفرضه، وإن لم يحصل ذلك، فليكن الجحيم هو البديل. التسوية في سوريا بعيدة جداً. الانتقال السياسي مشروط عندها بمرجعية «جنيف 1» وقرار مجلس الأمن 2254 بهدف تشكيل «مجلس حكم انتقالي سيدير شؤون الدولة»، على ان يلي ذلك كتابة دستور جديد بما يعني ان «الحكم الحالي سينتهي». ولكن الأسد يرفض هذا المسار، وحتى يقبله سيستمر القتال ويموت الناس. السعودية، مصرة على البقاء في الحرب: «لن يكون هناك بشار الأسد في مستقبل سوريا. فدور بشار الأسد انتهى». ولبلوغ هذا الهدف، ليس أمام المملكة غير الحل العسكري خياراً.

«الواقعية» السعودية تفترض القراءة «الصائبة»: «لا نريد القوة خياراً أول ولا أخيراً… لن يكون هناك أي حل سياسي حتى نغيِّر التوازن على الأرض ونجعل الأمر واضحاً تماماً لبشار الأسد. انه سيغادر اليوم أو غداً. وربما اليوم أفضل».

واضح هذا الأمر تحديداً. السعودية ماضية في الحرب، وهي ليست متعبة ولا منهكة. ما تدفعه اليوم، هو ضريبة للدفاع عن نفسها في المنطقة. لا تستطيع السعودية أن تخسر في سوريا وأن تخسر في العراق وأن تحاصر في اليمن، وأن تهدد من نموذج الحراك في البحرين وأن تترك المنطقة لمنطق الغلبة الإيرانية… السعودية في سوريا واليمن والعراق والبحرين تدافع عن نفسها لا عن الشعب السوري والثورة، ولا عن الشعب اليمني… السعودية فوق الجميع.

كل هذا مفهوم وواضح، فما تزال الحرب السورية في بدايتها.

النظام من جهته، يبالغ في تقدير قواته ميدانيا. يبالغ أكثر ويبني أحلاماً على عواصف الروس بواسطة «السوخوي». ثمانية أشهر والنتائج ليست نهائية والمعارك كرّ وفرّ. يطمئن النظام إلى انه وحلفاءه قادرون على كسر التوازن، وحتى، تحقيق الانتصار، وإعادة توحيد سوريا، بعد هزيمة «داعش» طبعاً.

مثل هذه الآمال، تحتاج إلى حروب لا تحصى. ولهذه الحروب من يدعمها ويخوضها ويعوِّل عليها.

تركيا ما بعد الانقلاب الفاشل، تقاتل وتناور وتحاور. لديها قوات حليفة في سوريا. خمس سنوات من الدعم والتدريب والشحن والتذخير لن تذهب سدى. تريد حصة في سوريا، من دون النظام، ولا تريد حلاً كردياً على حسابها. تغيّرت تركيا قليلاً. قبلت ببقاء الأسد قليلاً ولوقت قصير. المعركة في بدايتها. حلب أنموذج لحدود المعارك العسكرية. كل خسارة في مكان تعوّض في مكان آخر. الهجوم الأخير على حلب، لاستعادة مواقع خسرتها المعارضة المسلحة. استعيدت بزخم «التوحيد» الذي ضم «النصرة الجديدة»، جيش الفتح، والفصائل المشابهة لها… تركيا لم تتعب بعد. النصرة تجدد حضورها باسم جديد ويستقبلها الآخرون كـ «فتح» جديد.

وإيران لم تتعب بعد. لا في سوريا ولا في العراق ولا في اليمن. سليماني حاضر شخصياً لقيادة الأعمال العسكرية في الجبهات. الحلفاء يعوضون الثغرات العسكرية. «حزب الله» يتعاظم دوره. المنظمات الشيعية المشرقية فعالة. آلة التحشيد لم تقف بعد، كأن الحرب السورية في أولها.

شيء يدعو للرثاء.

الحل العسكري مستحيل. الحل السياسي، لم تكتب فيه الجملة الأولى. مستحيل كذلك. لا حل من دون روسيا. لا حل من دون تركيا. لا حل من دون النظام. لا حل من دون السعودية. لا حل من دون أميركا، لا حل من دون إيران… لا حل، لا غدا ولا بعده.

لذلك، لا تنس ما جاء في كلمات وجدت في بقايا رسالة تحت ركام في مدينة حلب.

إن الوجه الحقيقي لسوريا مرعب جداً. «فَابكِ يا بلدي الحبيب».