Site icon IMLebanon

سوريا.. الهدية المسمومة لبوتين وإردوغان

كما كان متوقًعا٬ هيمنت الأزمة في العلاقات ما بين موسكو وأنقرة على السياسات الإقليمية منذ إسقاط الأتراك للطائرة الحربية الروسية بالقرب من الحدود السورية. ويعتقد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بكل صراحة أن الأتراك أطلقوا النار على طائرته الحربية كجزء من مؤامرة من جانب حلف شمال الأطلسي لتحذير موسكو من توسيع عملياتها في الجوار. ومن جانبه٬ يبدو الرئيس التركي رجب طيب إردوغان مقتنًعا أن الجانب الروسي قد رتب تلك «الحادثة» لتقويض مكانته في المنطقة.

وبالتالي٬ فإن المكون الأول في ذلك الوضع المعقد هو التصادم بين خصمين يتسمان بقدر هائل من الغرور٬ بوتين وإردوغان. وكل منهما يرى نفسه من «عظماء الزعماء» بالمعنى الكلاسيكي لمنفذي الإرادة الإلهية لشعبيهما. ولدى كل منهما طموحات بناء الإمبراطوريات؛ حيث يريد بوتين إحياء أكبر قدر يمكنه من الإمبراطورية السوفياتية٬ على الأقل من خلال تحويل «الخارج القريب» إلى داخل مجال النفوذ الروسي.

فمن خلال التفكير في نمط القرن التاسع عشر من استعراض القوة عبر قطع المياه الزرقاء البحرية والقواعد العسكرية المتناثرة في كل مكان٬ فإن بوتين يرغب في تضخيم الوجود العسكري الروسي في القوقاز٬ من خلال ضم ما يقرب من 20 في المائة من إقليم جورجيا٬ وفي أوكرانيا من خلال التهام شبه جزيرة القرم وعزل دونيتسك٬ وفي دول البلطيق من خلال اللعب بورقة العلاقات الإثنية الديموغرافية٬ والآن٬ في منطقة الشرق الأوسط عن طريق تأسيس ذاته كزعيم للنفوذ الأجنبي في كل من إيران٬ وسوريا٬ والعراق.

كما يمكن لنا فهرسة طموحات إردوغان من دون أية صعوبات تذكر.

فهو يرغب في اقتطاع منطقة للنفوذ داخل كل من سوريا والعراق٬ واغتيال٬ بصورة كبيرة٬ الحلم الكردي في تفكيك الجمهورية التركية وإقامة دولة كردستان العظيمة على أنقاض الدولة التركية٬ والسورية٬ والعراقية المدمرة. كما يريد إردوغان كذلك بيع تركيا إلى الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي بوصفها قوة عظمى في منطقة الشرق الأوسط.

إلى حد ما٬ يأمل كلا الرجلين في ملء جزء من الفراغ الذي حققه التراجع الأميركي في عهد الرئيس باراك أوباما عن الزعامة العالمية. وفي الوقت الذي لم يعد أحد يلقي بالاً للولايات المتحدة٬ يرغب الرجلان في تأسيس مجرة من الحلفاء والشراكات حولهما.

وبالتالي٬ كانت حادثة الطائرة السوخوي أكثر قليلاً من مجرد ذريعة من كلا الطرفين٬ حتى إن بعض الخبراء يعتقدون أن الطائرة الروسية بقيت داخل المجال الجوي التركي لفترة من الوقت بسبب خطأ إلكتروني في إحداثيات الطيران المتوفرة من الجانب السوري٬ الذي يعتبر تلك المنطقة من الإقليم التركي «أرًضا مغتصبة» تعود بالأساس إلى دمشق. (ويطلق الأتراك على تلك المنطقة المتنازع عليها «هاتاي» بينما يسميها السوريون «الإسكندرونة»). لذلك٬ من الممكن أن الحادثة بأكملها جاءت نتيجة لمعلومات خاطئة وسوء في الفهم.

غير أن المفارقة هي أنه بقدر الاهتمام السوري بالأمر٬ فإن كلاً من موسكو وأنقرة تجمعهما نقاط مشتركة أكثر مما تفرقهما.

لا يرغب أي منهما لسوريا في الظهور كشريك٬ ناهيكم بكونها حليًفا للديمقراطيات الغربية على الجانب الآخر من البحر الأبيض المتوسط٬ وإحياء المنظور التاريخي للتوجهات الوطنية التي ترجع إلى أيام الإمبراطورية البيزنطية القديمة.

كما لا يرغب أي منهما لسوريا في السقوط تحت رحمة الجماعات الإسلامية الراديكالية كذلك. كانت روسيا ضالعة في حروب متقطعة ضد الإسلام الراديكالي منذ نهاية القرن 18 وهي حتى الآن ملزمة بالسيطرة على بعض «ممتلكات» المسلمين بالاتحاد الروسي من خلال حالة الطوارئ والوجود العسكري الكثيف.

إن ظهور الحركات الإسلامية المتشددة في تركيا لا يهدد فقط ما يسمى بالنظام العلماني للدولة التركية٬ بل سوف يهدد كذلك الفسيفساء المعقدة من الطوائف والأخويات الدينية التي أجبرت على العمل في الظلال ضمن محيط جمهورية كمال أتاتورك الناشئة.

ومن وراء تلك الخلفية٬ من المثير للدهشة أن كلاً من روسيا وتركيا تعاملتا مع تنظيم داعش بمنتهى اللطف والحلم والأناة.

وإذا صرفنا النظر عن الاتهامات والاتهامات المضادة بأن تركيا وروسيا تستفيدان من شراء النفط من تنظيم داعش وتبيعان إليه الأسلحة في المقابل٬ فإن هناك لمحة قليلة من الشك تحيط بأن روسيا وتركيا امتنعتا عن العمل جديا ضد «الخلافة» المزعومة.

وبغض الطرف عن بيانات النفي والإنكار السافرة٬ فمن الواضح أن «المجندين» يصلون إلى «داعش» عبر تركيا وأن التنظيم الإرهابي يحصل على جزء كبير من الإمدادات المهمة عبر الطريق ذاته. تسعى أنقرة للإطاحة بنظام حكم بشار الأسد الذي تحمل طائفته العلوية تاريًخا طويلاً من العمالة لروسيا٬ ومؤخرا٬ الجمهورية الإسلامية في إيران. كما أن إردوغان يعتقد أنه بصرف النظر عما يحدث٬ فإن تنظيم داعش سوف يكون لاعبا رئيسيا في تشكيل مستقبل سوريا٬ وبالتالي فما من مصلحة لتركيا في استعداء التنظيم الإرهابي من دون سبب.

من جانبه٬ فإن بوتين يعتبر «داعش»٬ على أدنى تقدير٬ «الخيار الثاني» في سوريا٬ حيث إن الخيار الأول هو بشار الأسد. والسبب في ذلك أن هناك احتمالاً ضئيلاً أنُيبرم تنظيم داعش صفقة ما مع القوى الغربية ويساعد في نقل سوريا إلى مدار حلف شمال الأطلسي. وأكثر من 90 في المائة من الغارات الجوية الروسية كانت ضد الجماعات المعارضة لبشار الأسد٬ وليست موجهة ضد القوات التابعة لتنظيم داعش. وفي الوقت ذاته٬ لم يتخذ تنظيم داعش أي إجراء ضد نظام بشار الأسد٬ حيث يركز التنظيم الإرهابي جل جهوده على تدمير الفئات المعارضة للأسد. وكان إسقاط طائرة الركاب الروسية فوق صحراء سيناء المصرية بمثابة تحذير إلى موسكو لئلا تتناسى تلك الاعتبارات. ولقد توصل تنظيم داعش إلى تفاهم ضمني مع طهران٬ حليف موسكو الرئيسي في سوريا٬ بعدم مهاجمة الأهداف الإيرانية. وصرح الجنرال سلامي قائد الجيش الإيراني أن هناك خًطا أحمر بطول 50 كيلومتًرا على الحدود الإيرانية مع العراق٬ وقد وافق تنظيم داعش على عدم تجاوزه.

من شأن الصراع الروسي التركي أن يزيد من تعقيد الموقف الحالي كثيرا. بعد إسقاط الأتراك للقاذفة «سوخوي»٬ لا يمكن لبوتين أن يبتلع كبرياءه ويمضي في طريقه وكأن شيئا لم يكن. ومن باب الفطنة السياسية٬ اقتصرت ردود فعله على الإيماءات الدبلوماسية إلى حد كبير مثالا بالاستيلاء على سفن الشحن التركية التي تحمل الدجاج المجمد إلى روسيا٬ ونشر مشروع قانون يجعل من «إبادة الأرمن» جريمة ضد الإنسانية. ولقد أبدى بوتين قدرا معقولا من الاستياء لما رفض الاجتماع مع إردوغان خلال «قمة المناخ» المنعقدة في باريس.

وبعد الإشباع الكامل لغرور وغطرسة الرجلين حان الوقت الآن لكل من إردوغان وبوتين للمضي قدما٬ وكما اقترح الزعيم السوفياتي السابق ميخائيل غورباتشوف الأسبوع الماضي٬ التركيز على المصالح المشتركة بدلا من «الأذية المتبادلة».

ينبغي على كل منهما إلقاء نظرة طويلة ومتفحصة على سياساتهما حيال سوريا ويطرحان عدًدا من الأسئلة المهمة.

هل يعتقدان حقا أن العالم يمكن أن يقبل بوجود سوريا التي تعتبر خلافة «داعش» المزعومة هي الجانب المهيمن على مجريات الأمور أو تلعب دورا محوريا في مستقبلها؟ هل من الممكن استبعاد كامل معسكر الأسد من اللعبة٬ كما يحلم إردوغان طوال الوقت؟

إن إعادة إعمار سوريا الممزقة سوف تتكلف أكثر من تريليون دولار٬ وفًقا لآخر التقديرات المنشورة. فهل بإمكان اقتصاد بوتين الذي يشهد هبوطا سريعا أن يضطلع بمهمة كتلك؟ وماذا عن إردوغان الذي يعيش على مساعدات الاتحاد الأوروبي؟