مع تواتر الكلام عــن إمكانــيـة نفاذ أحكام اتــفاق وقف إطــلاق النــار في سورية، يتقدم إلى واجهة البحث موضوع «الائتلاف» العسكري العريض الذي تــتــدخــل قــواتـــه في القتال السوري.
وإذ نقول الائتلاف العسكري وليس السياسي، فهذا من باب التمييز بين الحسابات التي تصل إلى حد التناقض على المستوى الإستراتيجي، وتبدي الكثير من ممارسات التناغم على الصعيد الآني، المرتبط ارتباطاً وثيقاً بالصعيد الوطني السوري المباشر. ضمن هذه النظرة التمييزية لا حاجة لبذل عناء كبير للقول إن ما دفع المتدخل الروسي إلى الوضع السوري هو غير ما دفع الأميركي والتركي والإيراني والعربي، فلكل من هؤلاء مفكرة «حبلى» بالعناوين، ولو أن كل طرف حرص على أن يطلق على القابلة السياسية اسم قتال داعش، كرمز مكثف لكل مقولة محاربة الإرهاب التي تجمعت قواه فوق الأرض السورية، واجتمعت على خرابها أيضاً.
نجد من المهم، بل الأهم، في فترة حديث الهدنة المتداول، تسليط الضوء على الدور الروسي في سورية، فهذا الأخير تحيط به التباسات لا ترقى إلى الالتباسات التي تحيط بسواه، وهو يبدو بمعايير الاتصال والانفصال بين العوامل الداخلية والعوامل الخارجية، الأكثر قابلية لجعله في دائرة الضوء، بحيث تكون قراءاته واحتمالاته ومآلاته، ممكنة التحديد في شكل عام، وهذا يُسْر سياسي لا تتوافر عليه القراءات الإجمالية للأدوار الأميركية والتركية والإيرانية.
يغلب على الدور الروسي في سورية طابع «الخارجية»، فاللاعب الأجنبي هذا لا ينطق بالضاد لغة، ولا يتكئ على «قبيلة» من قبائلها، أما المسيحية التي ينتمي إليها، فما زالت في موقع الريبة عربياً، وما مارسه الفكر القومي حيال هذه المسيحية من تهميش وتبخيس دور، بسبب من دمجه بين القومي والدين، هذه الممارسة تتضخم اليوم بعد أن احتلت فروع الحركات الإسلامية كامل مساحة الوضعية السورية.
ما جرى ذكره يفاقم صورة الخارجية اللصيقة باللاعب الروسي، وهذا يحرمه بدرجات متفاوتة من توسل التشكيلة الاجتماعية السورية للتلاعب بسياقها، أي أن البنية السورية ممتنعة على الروسي أهلياً، وهذا يعاكس حال المتدخل الإيراني، ويفترق افتراقاً بيِّناً عن أحوال المتدخل التركي، وقد يكون حقيقياً الاستنتاج أن صفة الدخيل على الخراب السوري ستظل من نصيب الروسي، في الوقت الذي تكتسب صفة المتدخل كل معناها مع نظيريه التركي والإيراني.
في مقام الجردة العامة، ومن أجل الإحاطة بالجزء الأهم من تفاصيل اللوحة السورية، نعرض للتدخلين الإيراني والتركي، لنلاحظ أنه على صعيد الإيراني يستند تدخله إلى حاملة داخلية مذهبية يحتل نواتـها الشيـعة السوريون على قـلّة عــددهم، وتؤمّن صلابة تماسك النواة الهيمنة المذهبية العلوية على الحكم والسلطة مع اتساع نفوذها ورسوخه، وإلى ذلك يسيِّج التدخل الإيراني المشار إليه مذهبيات الجوارين العراقي والإيراني، وتدعمهما «أممية شيعية» تنتشر على رقعة بلاد متعددة واسعة.
المتدخل التركي تقتصر مرافعته على داخل سوري فيه شيء من «التركية»، فيه الكثير من الكردية، وهذه الأخيرة تلعب الدور ونقيضه، فهي إذ تقدم للتركي مادة دفاعية في حالة المناوأة، فإنها تقدم له حلفاً موضعياً في حالة تواضع الأهداف الكردية ضمن سورية المستقبلية، وحاجتها إلى حماية من خارج حدودها. هكذا تبدو الداخلية التركية مزدوجة: فهي متوجسة وعدائية حيال حزب العمال الكردستاني وتأثيراته في سورية، وهي مؤازرة وحليفة وداعمة، مع صنف آخر من الأكراد ظل على ارتباط بالنظام السوري حتى أمس القريب، ولا يبدو أنه انتقل إلى القطيعة الكاملة معه، وإن تبدلت التكتيكات السياسية وتغيرت ضروراتها.
في اللوحة أيضاً، وضع الكتلة السلطوية المتحكمة بسورية، فهذه بعد أن تراخت قبضتها وفقدت سيطرتها على أجزاء واسعة من وطنها، تجد نفسها موضوعياً في منافسة وخصام مع المتدخلين الذين جاؤوا لنجدتها، فانتقلوا إلى بيدر الحسابات ليناقشوا حصصهم المناسبة من الغلال. مبعث الخصومة هي هذه القسمة التي قد تجعل الكتلة السلطوية شريكاً محاصصاً هامشياً من جهة، وتجعلها عاجزة عن صياغة الردود الزجرية المناسبة ضد الشركاء، بسبب من أن الشريكين الإيراني والتركي داخليان إلى حدٍ بعيد، والتصدي لهما تترتب عليه كلفة بنيوية أهلية عالية.
بناءً عليه، قد يجد النظام السوري، أو ما سيتبقى منه، ضالته في الخارجي الروسي للاستعانة به على الآخرين. فهذا تحكمه معادلة من دولة إلى دولة، وليس من مذهب إلى مذهب، وبقدر ما تكون بنود الاتفاقية قاهرة في ظرفٍ ما، فإنها تصير خفيفة ولا يمكن الاستغناء عنها في ظرف آخر.
كخلاصة، يبدو الطرف الروسي الشريك الأقل إزعاجاً للنظام، والأكثر قدرة على إزعاج بقية المتدخلين، لذلك قد يتراءى للسلطوي حلم توظيف الطرف الروسي في خدمته، توظيفاً يقرب أحياناً من الأوهام. تلك حسابات مفتوحة والوضع السوري مفتوح على كثير من المفاجآت. فحلف النظام ليس وحيداً في الميدان وكثير من اللاعبين يراقب من علٍ في كل الأجواء، وكل فريق يضمر للآخر تحجيم دوره، أو إخراجه من ميدان المعادلة السورية العامة.