لولا الثورة البلشفية في 1917 لكانت روسيا، ممثَّلة بمندوبها سيرغي سازانوف، شريكة بريطانيا وفرنسا في اتفاقية سايكس – بيكو في 1916 لاقتسام المغانم في حال هزم الحلفاء السلطنة العثمانية في الحرب العالمية الاولى. فضحت روسيا الاتفاق السري الفرنسي – البريطاني وخرجت من المعادلة الاقليمية بعد الثورة. وكانت حصة روسيا من الاتفاق المفترض تتضمن أجزاءً من تركيا المجاورة جغرافياً لروسيا وارمينيا.
عادت روسيا الى المنطقة دولة عظمى سوفياتية في مواجهة الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، خصوصا مع وصول خروتشوف الى السلطة، بعد ستالين الذي حصر اهتماماته الخارجية بالمحيط الأوروبي للاتحاد السوفياتي. اتّبعت موسكو سياسة خارجية متحركة في الخمسينيات مع احتدام الحرب الباردة في المنطقة. مصر، بقيادة جمال عبد الناصر، شكّلت المحور المؤيد لموسكو ومعها سوريا في مواجهة المحور العربي المتحالف مع الغرب بقيادة العراق تحت الحكم الهاشمي، وفي التوجه نفسه الاردن والسعودية. وسرعان ما توسع النفوذ السوفياتي في العالم العربي بعد العدوان الثلاثي في 1956، تبعه بعد عامين إطاحة النظام الملكي في العراق. حسمت موسكو موقفها الى جانب العرب في مواجهة اسرائيل بعد حرب 1967 وقطعت علاقاتها الديبلوماسية مع تل أبيب وباتت المصدر الاول للسلاح وللدعم الاستراتيجي لمصر وسوريا. هذا مع العلم ان موسكو كانت أول المعترفين بدولة اسرائيل في 1948 وكانت الصهيونية، بنظر ستالين، حركة اشتراكية تقدمية.
جاءت حرب 1973 لتقلب موازين القوى والتحالفات، فذهب الرئيس المصري أنور السادات باتجاه واشنطن بعدما راهن على أن مفاتيح حل النزاع العربي – الاسرائيلي بيد الولايات المتحدة. وكان قد بدأ التباعد بين السادات وموسكو مع طرد عدد كبير من الخبراء السوفيات في 1972. زيارة السادات الى القدس في 1977 فاجأت العرب وحتى اسرائيل وأطلقت مفاوضات مباشرة بين القاهرة وتل أبيب برعاية أميركية، أنتجت «معاهدة السلام» المصرية – الاسرائيلية في 1979.
في السبعينيات لم يبق لموسكو من حلفائها العرب الأساسيين سوى سوريا، وإن تراجعت العلاقات بين الدولتين بعد حرب 1973، قياسا على المراحل السابقة. خسرت روسيا مصر، وجمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية، الوحيدة بين دول المنطقة التي اعتمدت النموذج الماركسي السوفياتي، ودخلت في نزاعات مدمرة، ولم تكن علاقات موسكو مستقرة مع العراق وليبيا والجزائر. الأحزاب الشيوعية الموالية لموسكو كانت عرضة للقمع من الأنظمة العربية الحليفة، لا سيما مصر والعراق وسوريا. الحزب الشيوعي السوري قضت عليه الوحدة بين مصر وسوريا في 1958، وكان الطرف السياسي الوحيد الذي أعلن رفضه للوحدة، والحزب الشيوعي العراقي استُهدف في مختلف مراحل حكم حزب البعث، وكان أكثر الأحزاب الشيوعية العربية تنظيماً ونفوذاً، خصوصاً في عهد عبد الكريم قاسم.
الاجتياح السوفياتي لأفغانستان و «حرب النجوم» التي أطلقها الرئيس الأميركي رونالد ريغان ساهمتا بتسريع حالة التحلّل داخل النظام السوفياتي، فلم يعد قابلا للإصلاح وانهار دفعة واحدة بعدما خسر الحرب الباردة. استعادت روسيا بعض عافيتها بعد نحو عقد، مع الرئيس بوتين الذي ضرب الإسلاميين المتطرفين في الشيشان وحكم بشدة في ظل انبعاث قومية روسية جديدة رداً، في بعض جوانبها، على هزيمة الاتحاد السوفياتي. وجاءت محاولات التمدّد الأميركية عبر حلف شمال الأطلسي في جورجيا وأخيرا في أوكرانيا لتغذّي روح التحدي والمواجهة في روسيا. تصدّت موسكو لهذه المحاولات ووقع الصدام مع واشنطن والاتحاد الأوروبي في السنوات الأخيرة.
جاءت الأزمة السورية في التوقيت المناسب لإعادة الاعتبار الى روسيا. فكان «الربيع العربي»، الذي وصل الى سوريا في آخر سلسلة التحولات العربية، رافعة لاستعادة موسكو المبادرة في السياسة الخارجية في المجالين السياسي والعسكري. اصطدمت روسيا مع تركيا وهي تتنافس مع إيران وتتجنب الصدام مع أميركا واسرائيل. خطوات بوتين تبدو محسوبة، وإن أتت على وقع المدافع والطائرات المقاتلة.
استعاد الشعور القومي زخمه في روسيا بعد هزيمة الحرب الباردة وارتداداتها، مثلما استفاق الشعور نفسه في تركيا أتاتورك بعد هزيمة الامبراطورية العثمانية وفي ألمانيا بعد هزيمة الحرب العالمية الاولى والإجراءات المتشددة التي تلتها. الأزمة السورية مفتوحة على شتى الاحتمالات، باتجاه التسوية أو تفاقم النزاع، أو الاثنين معا.
تعود روسيا الى الساحة الإقليمية والدولية عبر البوابة السورية، بعدما باتت سوريا بوابة إيران الى المنطقة العربية منذ الثمانينيات، وبوابة تركيا بوسيلة الحرب في السنوات الأخيرة. ولكل باب مفاتيح تفتح بعضها أبواب الجحيم على حساب سوريا وأهلها. لن تنسحب روسيا من المعركة بلا إنجاز، بعد انخراطها الكامل في الحرب المتداخلة مع تعقيدات الأزمة السورية حيث لروسيا ولغيرها مواقف متضاربة، وإن كان لموسكو كلمة فاصلة بين أطراف النزاع في الداخل والخارج، أقله في المدى المنظور.