لم يقتصر الإرباك الذي أحدثته تصريحات الرئيس دونالد ترامب المتواترة والمتضاربة حول الانسحاب من سوريا الدول المعسكّرة على أرضها، بل انتقلت عدوى الارتباك الى لبنان. الجهة المعنيّة ههنا ليست حزب الله بالتأكيد الذي لا يمكن أن يخرج موقفه مما يجري في سوريا عما تريده طهران – وهي لم تعلّق على الموضوع – برغم التأكيدات الأميركية والإيحاءات الروسية بأنّ وجود الميليشيات الإيرانية في سوريا لم يعدّ له ما يبرره. تصريحات الرئيس ترامب التي أعقبتها تحركات عسكرية تركية في شمال شرق سوريا، وإعلان دولة الإمارات العربية المتّحدة ومملكة البحرين إعادة فتح سفارتيهما في دمشق، تلقفها وزير خارجيتنا جبران ياسيل ووضعها في الاستخدام السياسي كورقة معبّرة عن فرادته السياسية في قراءة المتغيّرات وفي استباق نتائجها. خاطبت المتغيّرات السورية كالعادة لدى الوزير باسيل شراهة سياسية دفينة وحذاقة مدّعاة لطالما أطلت برأسها مع كل مبادرة من مبادراته الرتيبة التي أطلقها لتشكيل الحكومة أو في زياراته الاغترابية التي حاول من خلالها إيهام الجمهور اللبناني أنّه مكتشف المغتربات في المقلب الآخر من الكرة الأرضية. ترجم الوزير باسيل المتغيّرات في سوريا تنصّلاً من الموقف اللبناني الرسمي فنأى بموقف الخارجية عن الموقف الحكومي موحيّاً بضرورة إسقاط الذرائع المرتبطة به مضيفاً الى سيرته الذاتية موقفاً قد يخدم ملفه الرئاسي.
يقامر الوزير باسيل بورقة التين المتبقيّة التي تخفي عورة التسوية الرئاسية القائمة على نأيٍ بالنفس لم يحترمه حزب الله ولم يتقيّد به رئيس الجمهورية، وعلى تعليق النشاط الرسمي والحكومي مع النظام في دمشق انسجاماً مع الموقف العربي. هذا في الوقت الذي لم تبدِ فيه الجامعة العربية أي اهتمام باستعادة سوريا عضويتها بالرغم من الضجيج الإعلامي الذي تحاول إثارته بعض الجهات الإقليمية.
أي سوريا هي تلك التي يريد الوزير باسيل دعوتها للقمّة الاقتصادية العربية؟ هل تلك التي قال عنها ترامب أنّها «رمل وموت» وأنه لن ينسحب منها قبل أن تتعهد تركيا بحماية الأكراد، أم سوريا التي تُنتهك سيادتها وتتعرض بشكل دائم للقصف الإسرائيلي تحت عنوان تدمير القواعد الإيرانية، أم سوريا التي قال رئيس وزراء العدو الإسرائيلي أنّه يطّمئن لجيشها لحماية حدود إسرائيل الشمالية، أم سوريا التي يريد رئيسها محاكمة سعد الحريري ووليد جنبلاط وسمير جعجع بتهم دعم الإرهاب، أم سوريا التي يقبع أحد إرهابييها، الوزير السابق ميشال سماحة، في السجن بتهمة نقل وحيازة متفجرات مكلّفاً من مسؤول أمنها القومي علي المملوك المطلوب أمام القضاء اللبناني، أم سوريا التي اتّهم رئيسها مراراً وتكراراً أصدقاء لبنان من الرؤساء والملوك العرب ونعتهم بالعمالة والإرهاب، أم سوريا التي تمنّعت عن ترسيم الحدود مع لبنان وعن إعطاء لبنان ما يثبت لبنانيّة مزارع شبعا؟
إنّ الدول العربية التي عزمت على إعادة افتتاح سفارتها في دمشق لم تفعل ذلك من قبيل الاعتذار من النظام السوري عن مواقف سابقة، بل إنّ ذلك يأتي ضمن إعادة رسم خريطة النفوذ الإقليمي والدولي في عدد من الدول العربية من الخليج العربي حتى البحر المتوسط مروراً بسوريا، مع ما يستتبع ذلك من تطوير للعلاقات العربية – العربية وفقاً لتبدّل الأدوار والمصالح، وإنّ ما سيحكم علاقات الدول العربية المستقبليّة مع سوريا الجديدة هو مدى رحابة الفضاء العربي الذي ستتيحه موازين القوى الجديدة في الداخل السوري، ومدى المصداقية التي تحتاجها سوريا لترميم علاقاتها مع الدول العربية.
دعوة سوريا للمشاركة في القمّة الاقتصادية العربية ليست حتميّة جغرافية بقدر ما هي حتميّة سياسية واقتصادية وأمنية تبنى على الاحترام والاعتراف المتبادل والعلاقات النديّة، وبغير ذلك لن يضيف إعلان الرغبة في دعوة سوريا سوى زيادة عدد الراغبين في التسكّع على قارعة طريق بيروت دمشق.