يشتكي المسؤولون الروس لمن يلتقونهم من أن إدارة الرئيس باراك أوباما لم تلتزم الاتفاقات التي تم التوصل إليها في شباط (فبراير) ثم في الربيع الماضي، ويروحون يعددون كيف أخل الأميركيون بها في الحي الفلاني وفي الشارع أو القرية العلانية، ولم يفوا بما وعدوا به، فيُغرقون محدثيهم من كبار المسؤولين وأعلى المستويات، بتفاصيل قتالية وميدانية صغيرة قياساً إلى حجم دولة كبرى تتعامل مع دولة عظمى أخرى مثل الولايات المتحدة.
يخرج محدثو وزير الخارجية سيرغي لافروف وغيره من كبار الديبلوماسيين الروس، باستنتاج واستغراب مفجع لا يقلل من فجاعة المجزرة التي ترتكب في حلب، بأن الاتفاقات الروسية – الأميركية حولت الدولتين الكبريين إلى ما يشبه «اللجنة الأمنية» التي تدير حرباً بفظاعة الحرب السورية، بدل أن تكون محاولة للبحث عن حل سياسي لأبشع حرب يشهدها العالم منذ الحرب العالمية الثانية، بنتائجها الكارثية على الصعد الإنسانية والجغرافية والديموغرافية والسياسية والاقتصادية إقليمياً ودولياً.
تحول لافروف وجون كيري إلى رئيسين لتلك اللجنة الأمنية التي أخذ بعض اللبنانيين يشبه فصول اجتماعاتها وإخفاقاتها بما كانت تنتهي إليه لقاءات اللجان الأمنية في الحرب اللبنانية التي امتدت فصولاً زهاء 15 سنة. لكن التشبيه هنا يصبح مأسوياً قياساً إلى الفارق في حجم الحربين واختلاف الأسلحة الفتاكة المستخدمة والمجازر التي ترتكب، والأحقاد التي تخلفها.
وإذا كان تفسير الغرق الروسي في هذا الأسلوب من إدارة الحرب السورية يتراوح بين اعتبار أن موسكو غرقت في المستنقع السوري، وبين القول إنها تمارس خبثاً وفق خطة سياسية- عسكرية معدة سلفاً لإفشال أي اتفاق أمني للهدنة أو وقف النار، للإجهاز على المعارضة السورية لمصلحة بشار الأسد، فإن تفسير الانزلاق الأميركي إلى هذا النوع من المعالجات الأمنية الفاشلة سلفاً، لا يقل تعقيداً. ويتراوح هذا التفسير بين القول إن واشنطن بلا قرار في شأن سورية، وبين الاعتقاد أنها تريد لهذه الحرب أن تستمر، لأن إدارة باراك أوباما تترك المنطقة تتآكل بالحروب والانقسامات، مفسحة المجال أمام إسرائيل لأن تستفيد من إضعاف الجسم العربي بالدرجة الأولى كي يصبح الدور الإسرائيلي حاجة لها في أي حل مستقبلي ينهي المذبحة المتواصلة في بلاد الشام.
ومهما كان تفسير غرق الدولتين الكبريين في التفاصيل الأمنية، كما يستنتج من يقرأ الاتفاقات التفصيلية بينهما حول «طريق الكاستيلو»، وتمرير شاحنة مساعدات إنسانية من هذه الجبهة أو تلك، وقيام غرفة عمليات مشتركة لمحاربة الإرهاب، فإن النتيجة العملية الوحيدة من إخفاقات هذه الاتفاقات هي تغييب الدور العربي عن محاولات صوغها، ثم عن أي جهد لاستدراك هذه الإخفاقات، ثم العجز عن تعديل موازين القوى لتجنيب السوريين مزيداً من القتل والتدمير. وإذا كان من تبريرات سياسة أوباما الانكفائية أن على الدول الإقليمية أن تأخذ دورها في معالجة الأزمة السورية وغيرها من أزمات الإقليم، فإن الدول العربية المعنية بسورية بقيت عاجزة عن التقاط المبادرة لانتزاع هذا الدور قياساً إلى ما تفعله كل من تركيا وإيران وإسرائيل في الميدان السوري. فهي تارة تنتظر ضوءاً أخضر من واشنطن، وأخرى تراهن على مسايرة روسية لها، متوهمة بإمكان جذب موسكو إلى مصالحها العربية، بدل أن تقدم على خطة خاصة بها تفرض نفسها في الميدان وفي المداولات السياسية.
يضرب فلاديمير بوتين عرض الحائط بكل الوعود العربية له بحفظ مصالح روسيا في المنطقة، لأن من يصدرها ليس بالقوة الكافية التي تتيح له المقايضة. ولا يخجل أوباما من النكوث بموجبات تشجيعه عواصم عربية على الثبات في موقفها ضد نظام الأسد، بحجة الإفادة منه في مفاوضاته مع بوتين.
إنه ازدراء ما بعده ازدراء، يتم بغطاء الاحتجاجات الأقرب إلى البكائية التي تصدر عن كيري، حين يخلّ الروس بما يتفق عليه ويمارسون أبشع أنواع القصف بالأسلحة المحرمة التي بات الشعب السوري حقل تجارب لها.
الخطة الروسية – الإيرانية – الأسدية تقضي بالسيطرة على حلب، وإخراج المقاتلين منها، والأهالي أيضاً، إلى إدلب، لتغيير ديموغرافيتها هي الأخرى كما حصل في حمص ومحيط دمشق وقلبها والقلمون… تمهيداً لمرحلة أخرى تقضي بتحويل إدلب إلى أثر بعد عين، أي إلى غروزني أخرى. عندها قد يسجل التاريخ أن البابا فرانسيس قال في صلاته إن من ارتكبوا العنف في حلب «سيحاسبهم الله»، وأن بان كي مون اعتبره «جريمة حرب». عندها يكون الأوان قد فات، لأن من قصدهم البابا يؤمنون بغير الله، ولا يعود انتظار الإدارة الأميركية الجديدة بأي منفعة للمراهنين عليها.