أطفالٌ حَديثو الولادة يُباعون ويُشترَون، يغادرون أحضانَ أمّهاتِهم إلى أحضانٍ جديدة أو… إلى المجهول! هذه الظاهرة المأسوية واللاإنسانية، تَحدُث في لبنان. أبطالُها وسَطاء سوريّون يتبوَؤون مناصبَ في التنسيقيّات السوريّة، يستغِلّون أزمةَ النازحين الإنسانية، للمتاجرةِ بأطفال رُضَّع تلِدُهم «نساءٌ»، بغرَضِ بَيعِهم إلى عائلاتٍ أجنبية ميسورة ليس لديها أطفال، ومبادلةِ أجسادِهم الطريّة بالأموال.
«الفَقر يدفعنا إلى القيام بالمستحيل لإعالة عائلاتنا، في وقتٍ أجبرونا على تسَوّلِ الرغيف على أعتاب الجمعيات والمؤسسات التي تُتاجر بنا وبكرامتنا». بهذه العبارات اختصرَت ياسمين الواقعَ المأسوي الذي يعيشه بعض السوريين في لبنان منذ اندلاع الحرب في بلادهم وتهجيرهم، مبَرِّرةً «العمليات السرّية» التي تمتهنُها والتي تدرّ عليها 3 آلاف دولار أميركي للطفل.
إلتقيتُ ياسمين (26 عاماً) في بوتيك إحدى مَعارفي في محلّة سنّ الفيل، والتي كانت ياسمين تقصدها شهرياً للحصول على مساعدات تودِعُها إحدى الجمعيّات عندها بهدفِ توزيعها على النازحين السّوريّين.
لم يكن اللقاء وليدَ الصدفة، بل بتدبير من صديقتي التي سَرَّبت لي سَهواً سِرَّ ياسمين، وذلك خلال حديثٍ دارَ بيننا عن أوضاع النازحين في لبنان. فما كان منّي إلّا أن طلبتُ منها لو تجمعُني بياسمين بذريعةِ أنّ قريبةً لي تريد تبَنّي طفلٍ، وأنّني أريد المساعدة.
وهكذا، ادَّعيتُ أمام ياسمين أنّ ابنةَ عمّي التي مضى على زواجها أكثرَ مِن 8 سنوات، ولم تستطع إنجابَ الأطفال، تسعى وزوجَها لتبنّي رضيعٍ يُدخِل الفرحة وبراءَة الطفولة إلى منزلهما.
«أنا حامل في شهري الرابع»، كشفَت ياسمين بعدما تعهّدتُ بالتكتّم والسِرّية التامّة، لافتةً إلى أنّها ستُرزَق بعد خمسة أشهر بطفلٍ، «ولكنّه محجوز. فهناك مَن دبَّره لإحدى العائلات الأجنبية».
وأضافت: «إذا لم تكن قريبتُك مستعجلة، وتستطيع الانتظار سَنة ونصف السنة، قد أتمكّن مِن أن أؤمّن لها طفلاً أو طفلةً في نهاية السَنة المقبلة. ولكنْ عليّ أن أسألَ أوّلاً أحدَهم لأتأكّد هل وعدَ إحدى العائلات بإعطائها الطفلَ المقبِل، عِلماً أنّني سأبذل ما في وسعي لأدبّر طفلاً آخر من صديقةٍ لي. ماذا قلتِ؟»
لم أستطِع تصديقَ ما سمعتُه. هل هذا معقول؟ أمٌّ تنتِج الأطفالَ بهدف البَيع؟ هل الحياة رخيصة إلى حَدّ أن تتاجرَ الأمّهات بفلذات أكبادهنّ؟ هل بات الكسبُ المادّي هدفاً حتى لو كان المقابل كائناً بشَرياً؟
«يَحصَلون على الجنين بـ 3 آلاف دولار أميركي كاش»، تابعَت ياسمين، مشيرةً إلى أنّه «السِعر الذي نكسَبه زوجي وأنا «عَ البَيعة»، معلِنةً أنّها تُسَلّم الجنين «لوسيطٍ يتكفّل بدوره بتسليمَه إلى العائلة الأجنبية التي تطلبُه».
وعندما سألتُها عن هوية الوسيط، أجابَت: «أكيد لن أطلِعَك على هويّته، هل أنا مجنونة لأفعلَ ذلك؟» ولكنّها استدرَكت: «مَنّو مِين ما كان، كلّ ما يمكنني إخبارَك به هو أنّه يتبَوَّأ منصباً رفيعاً في «التنسيقيات السوريّة»، ولديه معارف كثيرة في لبنان».
وأضافت: «هذا لا يَهمّ. سأتحدّث إليه غداً صباحاً وأخبرُه عنك، وسنرى هل سيَسمح لنا ببَيع الطفل المقبل لابنةِ عمّك، لأنّه كما تعلمين، هناك لائحة انتظار». وعن كِلفة العملية في حال تدَخّل الوسيط، قالت: «لا أعلم المبالغَ التي يطلبونها، كلّ ما أعرفه هو أنّني أقبض 3 آلاف مقابل الطفل، فإذا وافقَ على التواصل معكم، سأترك لكِ رقمَ هاتفه، وسأشَدّد عليه حتى «يتوصّى فيكِي»».
تبيَّنَ لي من خلال حواري معها، أنّ ياسمين تنتمي إلى عصابة كبيرة لبَيع الأطفال، ضِمن شبكةٍ تضمّ سيّدات سوريات مهمّتهنّ الحَمل والولادة، وبالتالي بيع الأطفال. وهنّ يحصَلنَ على القليل جدّاً من المال مقارنةً مع ما يَحصل عليه «الوسَطاء» الذين يديرون العرضَ والطلب مع العائلات.
وهنا سألتُها: «هل تبيعين كلّ طفل تُرزَقين به؟ ألا تشعرين بالسوء في كلّ مرّة تتخلّين عن قطعةٍ منكِ، فلذةِ كبدِك؟».
فرَدَّت: «لديّ توأمان: صبيّان وفتاتان، ربيّتُهم بدموع العين ولا نتخلّى عنهم. الفتاتان تبلغان 8 أعوام والصَبيَّان 7»، لافتةً إلى أنّ «تربية 4 أطفال ليس بالأمر السهل، خصوصاً في ظلّ الظروف القاهرة التي نعيشها، وبالتالي لا حلّ أمامنا سوى بيعِ الأطفال الآخرين لنتمكّن من تأمين العيش الكريم لنا ولأولادنا، عوضَ مواجهة مصير التشرّد والجوع والذلّ المحَتّم». وأضافت: «للأسَف، بعدما اتّخذنا قراراً بتأمين أطفال للعائلات التي حُرِمت منهم، لم يحالِفني الحظ بإنجاب أيّ توأم، وإلّا لكنتُ تقاضيتُ 6 آلاف دولار خلال عام، عوضَ 3 آلاف.
ولكنّني أنجبتُ خلال 5 أعوام، 5 أطفال: 3 صبيان وبنتين، وها هو السّادس على الطريق». وكشفَت ياسمين «أنّنا نخَطّط للعودة إلى سوريا بعد انتهاء الحرب، لإعادة إعمار بيتنا وتحسين ظروف حياتنا هناك. فالحياة هنا قاسية جداً، خصوصاً بعد تخفيض المساعدات الدولية والمحَلّية، وإلغاء بعضِها، عدا عن انحسار المساعدات الغذائية والماليّة التي كانت تُغدَق علينا من كلّ حدبٍ وصوب عبر جمعيات ومؤسسات محلّية وعربية».
وعن سُبلِ تسجيل الطفل على اسم العائلة التي تشتريه، شرحَت ياسمين: «كلّ شيء مجَهَّز ومدبَّر، فالوسيط يُعرِّف العائلة التي تشتري الطفل على طبيب نسائي وتوليد يعطيها مستنَداً رسمياً أو شهادةً رسمية تفيد على سبيل المثال، أنّه اضطرّ لتوليد الأمّ في عيادته إثر تعرُّضِها لحالةٍ صحّية طارئة».
وَدَّعتُ ياسمين مذهولةً ولم أصدّق ما دار بيننا من حديث. هل باتَ الإنسان رخيصاً جداً؟ مَن يردعُ هكذا أعمال إجرامية على الأرض اللبنانية؟
ما مِن قانون واضح وصريح يَمنع بَيعَ الأطفال والإتجارَ بهم في لبنان، إلّا أنّ «هذا لا يعني أنّ القانون اللبناني لا يُجَرِّم الإتجارَ بالأطفال»، هذا ما أكّدَه المحامي عامر الخُجا لـ«الجمهورية»، «فهذه العصابة، وإن كانت من التابعيّة السورية، فهي تَرتكب هذه الجرائم على الأراضي اللبنانية، وبالتالي إنّها جناية يَجب ملاحقتُها».
ولفتَ الخُجا إلى أنّ «المادة 492 من قانون العقوبات، وتحديداً في بند «الجرائم المتعلّقة بالولد وبُنُوَّتِه»، تنصّ على أنّ «… مَن نَسبَ إلى امرأةٍ ولداً لم تلِده – ممّا يعني المتاجرة – عوقِبَ بالأشغال الشاقة الموَقّتة».
وأضاف: «كما جاءَ اجتهاد المَحاكم ليفسّرَ المادة تفسيراً واضحاً بأنّ «مَن سَهّلَ مساعدة المحكوم عليه وإبعاد الولد المولود حديثاً عن والديه بهدف بيعِه، فإنّ ذلك يقع تحت طائلة قانون العقوبات اللبناني»، وبالتالي «لا تنقص العقوبة عن 5 سنوات من الأشغال الشاقة إذا كان الغرض من الجريمة أو نتيجتها إزالة أو تحريف البيّنة المتعلّقة بأحوال الولد الشخصية أو تدوين أحوال شخصية صوريّة عن السِجِلّات الرسمية».
وأكَّد وجوبَ «ملاحقة كلّ العصابة، أي كلّ مَن سَهّلَ العمل واشتركَ فيها وحرّض، وأيضاً مَن اشترى الولد، لأنه بذلك يُسهِم في تحريف بيِّنةِ الطفل الشخصية، إذ يَسلخُه من أبَويه الحقيقيين ويَنسبه لشخصه».
وشدَّدَ على «ضرورة أن تتعاطى الدولة اللبنانية مع هذا الموضوع بجِدّية وحَزمٍ مطلقَين، وبالتالي أن تكون هناك رقابة صارمة في هذا السياق، تشمل القابلات القانونيات والمستشفيات والأطبّاء. فلا مفرَّ مِن توفير مراقبين صحّيين على الولادات، لوضعِ حدّ لهذه الجرائم بحقّ الإنسانية».
وفي هذا الإطار، أعلنَ مسؤول أمنيّ رفيع لـ«الجمهورية»، أنّ «قوى الأمن الداخلي نجحَت يوم 11 نيسان الماضي، عبر مخبِرين لها في المناطق، بتوقيفِ عصابة تتاجر بالأطفال السوريين، في بلدة بدبا قضاء الكورة، مؤلّفةٍ من أربعة أشخاص: امرأتين ورجلين»، موضحاً أنّ «الأدوار كانت موزّعةً وفقَ الآتي: إمرأةٌ تتعاطى الدعارة وحَملت، ما اضطرّها لبَيعِ طفلِها بعد الولادة، وامرأة أخرى لعبَت دورَ «السمسارة» واقتصَر دورُها على تدبير الشارين للطفل، فيما تبيَّنَ أنّ الرجلين هما زوجُ المرأة الأولى السابق، وآخر تعاونَ معهم للحصول على نسبةِِ معيّنة من الأرباح، عِلماً أنّهم كانوا يبيعون الطفلَ بـ 60 ألف دولار»، مشيراً إلى أنّهم أحِيلوا «إلى مكتب الآداب للتوَسّع في التحقيقات، فيما أحيلَ الطفل إلى مكان مخصَّص للرعاية، وخُتِم البيت الذي كان مرتَعاً للدعارة بالشمع الأحمر».
في المحصّلة، مِن الواضِح أنّ محاولات استغلال الأطفال تبدأ ما قبلَ ولادتِهم، أي وهُم في أرحامِ أمّهاتِهم. وأفظعُ ما في الأمر، بروزُ جَشِعين جُددٍ يتاجرون بعظامِهم الصغيرة قبلَ نُموِّها. فتضيعُ مصائرُهم في رحابِ عصاباتٍ تُحيلهم على عائلات جديدة، بعدَ والدَين قرّرا ببساطةٍ، المتاجرةَ بهم مقابلَ مبالغَ زهيدةٍ من المال.
قد لا يَعرفُ هؤلاء الأبرياء أنّ تلك العيون التي يُحدّقون فيها، أثناءَ نموِّهم، تعود لأهلٍ غير أهلِهم، ومَن يدري ما إذا كان سيلتقي أخٌ أختَه يوماً ما مِن دون أن يعرفا صِلةَ القربى بينهما، فيَتحابّانِ كأيّ عاشقَين ويتزوّجان وكأنّ شيئاً لم يكن. ويبقى السؤال: أين الحكومة اللبنانية والمؤسسات الإنسانية من هذه القضية الخطِرة؟ وكيف تُواجَه هذه الحالات المأسوية على الأراضي اللبنانية؟