IMLebanon

عاصفة سوريا والمراهقة اللبنانية

 

محبطة للآمال طريقة تعاطي المسؤولين والقادة اللبنانيين مع التداعيات الناجمة عن سقوط النظام الذي حكم البلد المجاور للبنان، أي سوريا، بشدة وقسوة وبطش لنحو 54 عاماً، والذي بسط نفوذه جزئياً ثم كلياً على جاره الصغير والضعيف لنحو 40 سنة، بعد مساهمته في هزّ استقراره ودفعه إلى حرب داخلية عبر الحدود البرية المشتركة بينهما.

وبدل أن تنصرف القوى السياسية، أكانت من الفرحين أو من الحانقين، إلى إجراء قراءة متأنية للتداعيات التي ستطاول لبنان مستقبلًا، ذهب هؤلاء إلى سجالات وحملات غير مفيدة لا بل مؤذية، وهي إشارة إضافية حول عدم نضج هذه الطبقة السياسية. ذلك أنّه من البديهي القول إنّ الزلزال الهائل الذي ضرب سوريا لم يكن بهدف «خدمتنا» بل لحسابات إقليمية ودولية كبرى لا بدّ من تبيان خيوطها والسعي لتبيان خلفياتها.

 

ليس سراً أنّ العلاقة «الغرامية» السرّية التي كانت قائمة بين نظام حافظ الأسد والإدارات الأميركية المتلاحقة كان قد وضع مداميكها الثعلب هنري كيسنجر في العام 1973. ومن يومها التزم الأسد الأب بعدم تجاوز الخطوط الحمر الأميركية أياً تكن الظروف والإعتبارات، وفي المقابل إلتزمت واشنطن بعدم تهديد حكم الأقلية العلوية لبلد الغالبية السنّية. ورغم حال العداء الظاهرية إلّا أنّ الحدود في الجولان شهدت هدوءاً كاملاً حتى العام 2011 تاريخ اندلاع الثورة في سوريا في أيام بشار الأسد.

ولا حاجة لتعداد الهدايا الكثيرة التي أغدقتها واشنطن للأسد الأب في مقابل هدايا أخرى لا تقل أهمية. وهكذا ردّت واشنطن التحية لسوريا لمشاركتها في حملة «عاصفة الصحراء» بأن منحتها الدخول إلى قصر بعبدا والسيطرة على كل لبنان. لكن مع رحيل الأب وتولّي الإبن مقاليد السلطة، كان من المنطقي أن تعمل واشنطن على إعادة صوغ علاقتها بدمشق، خصوصاً أنّ صقور إدارة جورج دبليو بوش كانوا يحضّرون لاحتلال العراق لإعادة ترتيب المنطقة. وفي وقت التزم الجار الشرقي للعراق أي إيران، أقصى درجات الإنضباط والحذر، فإنّ الجار الغربي أي سوريا وتحت قيادة رئيسه الشاب، شرّع حدوده للمجموعات الراغبة بمقاتلة الأميركيين، ولم تكن بصمات إيران بعيدة عن ذلك. وحصل تبادل اللكمات على الساحة اللبنانية، حيث اغتيل رفيق الحريري المحسوب على الغرب وتلاه إخراج القوات السورية من لبنان. لكن الفراغ السوري سرعان ما نجح «حزب الله» في ملئه إثر اضطرابات متنقلة. أما دمشق فبدأت تخطو أولى خطواتها في اتجاه عدم الإستقرار. وانفجر الشارع في وجه نظام بشار الأسد في العام 2011. ويومها وبخلاف الإنطباع السائد فإنّ واشنطن تركت القيادة العملانية «للثورة» لدول الخليج وفرنسا. أما واشنطن فلم تتدخّل بفاعلية، والسبب أنّها كانت لا تزال مقتنعة بمخاطر إسقاط النظام العلوي، وكانت إسرائيل تتمسك بهذه المعادلة بقوة. ويومها تمّ التداول بحل وسط يقضي بالحفاظ على استمرارية النظام ولكن عبر استبدال بشار الأسد بآصف شوكت، لكن شوكت اغتيل بعد فترة قصيرة، وهو كان الوحيد المؤهل لأن يشكّل استمراراً للنظام في ظل غياب آل الأسد، إذ لم يكن هنالك بديل عن هذه المعادلة.

 

لكن مع تفشي الفوضى في سوريا دخلت إيران بقوة على الخط إن مباشرة أو عبر حلفائها وأبرزهم على الإطلاق «حزب الله»، وبدأت بالإمساك بمفاصل الدولة. وفي العام 2015 لم تعارض واشنطن دخول روسيا لإنقاذ النظام الذي كاد أن يهوي. وكان الرهان الأميركي أن يؤدي الدخول الروسي إلى تحجيم واحتواء التمدّد الإيراني الحاصل. وفي كتاب جون بولتون محضر لقاء مع الرئيس الروسي حول هذه النقطة. فلقد أبدى بوتين موافقته الكاملة على تحجيم إيران في سوريا، لكنه غير قادر الآن لأنّ قواته الجوية في حاجة للمجموعات البرية الموالية لإيران. في الواقع ازداد نفوذ إيران وحلفائها في سوريا التي أضحت قاعدة إيرانية وممراً مفتوحاً لتزويد «حزب الله» الأسلحة، وشكّلت موطئاً استراتيجياً للحلم الإيراني بالوصول إلى الشاطئ الشرقي للبحر المتوسط.
لكن المؤسسات الأميركية والتي شرعت منذ سنوات بعيدة في رسم استراتيجية جديدة تحاكي صدّ الجموح الروسي واحتواء التمدّد الصيني، وجدت ضرورة إقفال شواطئ البحر المتوسط في وجه روسيا، وإمساك الشرق الأوسط أمام الطموح الصيني. وبالتالي إعادة رسم الخريطة السياسية في المنطقة. وهو ما يعني استعادة النفوذ الأميركي على شاطئ لبنان وساحله، ووضع معادلة جديدة في لبنان وسوريا. وجاءت عملية «طوفان الأقصى» لتدفع في اتجاه ترتيب كل المنطقة على الساخن، والبحث في جدوى الإبقاء على خريطة سايكس ـ بيكو، وبالتالي الذهاب إلى التأسيس لخريطة جغرافية جديدة.

وربما الخطأ القاتل الذي وقع فيه الأسد الإبن، أنّ معادلة التمسك ببقاء النظام ما زالت قائمة، وأنّه لا بديل لواشنطن من آل الأسد. لكن الدور الجديد الذي تتولاه تركيا يؤشر إلى غير ذلك. فأنقرة أساساً كانت متحسسة من الدخول الروسي إلى سوريا، وخصوصاً لقاعدتها البحرية في طرطوس في جوار الساحل التركي. والصدام الذي حصل عام 2015 عندما أسقطت تركيا مقاتلة روسية دخلت خطأ المجال الجوي التركي يعكس مدى الحساسية الموجودة. لذلك كان مفهوماً إعطاء واشنطن هذا الدور الكبير لتركيا في سوريا.

لكن التشابكات الحاصلة تجعل اللعبة معقّدة وصعبة. ويلخّص الكلام الذي قاله إليوت أبرامز (أحد صقور إدارة جورج دبليو بوش) الاثنين الماضي في ندوة للمعهد اليهودي للأمن القومي الأميركي بأنّ على واشنطن أن تتعاون مع أنقرة في سوريا «لاكتشاف ماذا تريد تركيا بالضبط من سوريا، وإلى ماذا تهدف فعلاً».

إذاً، هي مرحلة اختبار دقيقة تجريها واشنطن لتركيا، والتي عملت طوال المرحلة الماضية بحنكة ودهاء. مع الإشارة هنا إلى أنّ دونالد ترامب والذي سيدخل قريباً إلى البيت الابيض كان يبدي سابقاً إعجابه بشخصيات الحكام الأقوياء مثل بوتين وأردوغان. لكننا هنا نتحدث عن مصالح الدول. ففي سوريا هناك لاعبان دوليان أساسيان ظاهران وهما واشنطن وأنقرة ولاعب ثالث أساسي ولكن غير ظاهر وهو تل أبيب. وهذه التشكيلة الدولية الجديدة ترسّخ حضورها على أنقاض نفوذ إيران وتراجع الحضور الروسي.

 

حتى الآن أعطت تركيا إشارات إيجابية على لسان أحمد الشرع (الجولاني) حين قال إنّه لا حروب بعد الآن، وتمسّك بحماية الأقليات الدينية وأخذ سوريا إلى حالة من الحكم الرشيد. وأرفق ذلك بإنجاز اتفاق محلي مع الأكراد إثر مواجهات طاحنة ودامية دامت لثلاثة أيام، ما شكّل أول أختبار ميداني بين نفوذ واشنطن وأنقرة.

أما إيران فلا جدال في أنّها تلقّت ضربة استراتيجية بخسارتها الممر والقاعدة الأهم بعد ضربتين متلاحقتين في غزة ولبنان. ولا يخفف من وطأة هذه الخسارة التعابير المرنة لمسؤوليها حول تأييدها ترك الشعب السوري ليختار قادته، وأنّ طهران فتحت قنوات تواصل مباشرة مع بعض الفصائل السورية المعارضة.

لكن هذا لا يلغي بعض الإشارات الإيرانية ـ الغريبة، والتي رافقت سقوط نظام الأسد. فهي كانت باشرت بسحب ضباطها ومستشاريها من سوريا يوم الجمعة أي قبل سقوط دمشق بيومين. وبعد ذلك ظهرت إنتفادات للرئيس السوري «العنيد». وسرت أقاويل بأنّ الأسد كان متردداً تجاه إيران خلال الأشهر الماضية، وحيث طالب بتقليص قواتها في سوريا. وكذلك تأفف طهران من مواقفه إزاء حربي غزة ولبنان.

إلّا أنّ الأوساط الديبلوماسية تتحدث عكس ذلك. فالغضب الأميركي على بشار الأسد بلغ ذروته عندما نكث بوعده لواشنطن عبر طرف ثالث، بأنّه لن يسمح بإعادة تزويد «حزب الله» بالأسلحة خلال الحرب. واكتشفت بعدها واشنطن أنّ إيران نجحت في إيصال أسلحة وصواريخ في عزّ الحرب، وهو ما جعل الطائرات الإسرائيلية تقصف بجنون الحدود والمناطق البقاعية الشمالية. وكذلك ومع سقوط حلب أرسلت واشنطن عبر طرف ثالث للأسد بضرورة إعلانه الإبتعاد عن إيران والبدء بإصلاحات سياسية داخلية مع أطراف المعارضة وهو ما سيجنّب إسقاط دمشق. لكن الوعد الذي أرسله الأسد لم يأخذ طريقه الى التطبيق.

وهنا تُطرح التساؤلات حول حقيقة الموقف الإيراني. ذلك أنّ سقوط سوريا كرّس ابتعاد إيران عن شاطئ المتوسط، ولكنه يترافق مع كلام غريب يطلقه نائب الرئيس محمد جواد ظريف، والذي يعطي فيه الأولوية للإقتصاد والانفتاح على الغرب ولا سيما منه واشنطن.

ولأنّ اللعبة أكثر تعقيداً مما يعتقد كثيرون كان لا بدّ من استبدال الأهازيج أو النحيب على حدّ سواء بإجراء قراءات مستفيضة ومعمّقة للمنحى الذي تتخذه الأمور والاحتمالات المفتوحة أمام مستقبل لبنان، بدل التراشق والتساجل كصبية ما دون سن الرشد.