IMLebanon

سوريا: موازين قوى في حضرة الصدفة والمجهول

خمس سنوات وسوريا أرض نزاع محتدم، حافل بالمفاجآت، لم يبق طرف إقليمي ودولي إلا وانخرط به. ايران ليست طارئة على الشأن السوري، وهي حليفة النظام منذ عقود في السرّاء والضرّاء. تركيا دعمت المعارضة وباتت اسطنبول عاصمتها وراهنت على الإخوان المسلمين لإسقاط النظام، فتكون سوريا بوابة النفوذ التركي الى العالم العربي. وتحولت الحدود التركية – السورية ممرّا آمنا للجماعات السلفية المتطرفة الآتية من العالم أجمع الى «أرض الجهاد» السورية.

في العالم العربي، لا سيما السعودية وقطر، كان الرهان على السقوط الحتمي والسريع للنظام، الى حدّ تجميد عضوية الدولة السورية في الجامعة العربية. أعلنت السعودية وبعض دول الخليج الحرب على النظام ودعمت الأطراف المسلحة. وسرعان ما انتشرت التنظيمات التكفيرية في مناطق واسعة في العراق وسوريا واشتبكت في ما بينها ومع التنظيمات المسلحة المحسوبة على المعارضة المشتتة. ولم يبقَ في الميدان سوى الجيش النظامي بمواجهة التنظيمات التكفيرية. محاولات إسقاط النظام من الداخل فشلت، وتدريب واشنطن مقاتلين معتدلين كانت تجربة لامست المهزلة، ومعها بدعة «اعتدال» جبهة النصرة المرتبطة بالقاعدة. وكان سبق ذلك دخول «حزب الله» الحرب الى جانب النظام وفي مواجهة مع التنظيمات التكفيرية.

الدول الكبرى كانت أكثر واقعية في تعاملها مع الأزمة السورية من دول المنطقة. انخرطت الدول الكبرى في النزاع حماية لمصالحها واستعملت روسيا والصين الفيتو في مجلس الأمن. وبموازاة الميدان انطلقت اجتماعات جنيف ومحاولات إيجاد حلول سياسية لأزمة خرجت عن السيطرة. نجحت الدول الكبرى في نزع السلاح الكيمائي من سوريا في 2013 بعدما رفعت واشنطن عصا التهديد بالتدخل العسكري.

تحوّلٌ مفصلي في مسار الأزمة بدأ مع دخول روسيا الحرب بترسانة متكاملة لضرب الإرهاب ومعارضي النظام ولإطلاق مسار تفاوضي لتسوية أكثر توازناً وواقعية. وسرعان ما تحولت أزمة اللاجئين مصدر تهديد مباشراً لاستقرار دول الاتحاد الأوروبي، ومارست أنقرة سياسة الابتزاز عبر ضخّ آلاف اللاجئين الى أوروبا بهدف المقايضة المالية والسياسية.

حسابا الحقل والبيدر لم يتطابقا في الأزمة السورية. تقلّبُ أدوار تركيا قابلتها ثابتة استهداف الأكراد. ولم تحسب ايران، بعد المصالحة التاريخية مع الدول الكبرى، أنها ستجد نفسها في تنافس مع روسيا في سوريا، وإن في حدود لا تصل الى حدّ الاشتباك. اصطدمت تركيا مع روسيا بعد إسقاط المقاتلة الروسية، متّكلة على دعم الحلف الأطلسي، بينما واشنطن وموسكو في تناغم لضرب التنظيمات الإرهابية، خصوصا أن الرئيس الأميركي أوباما حسم أمره لجهة عدم التدخل العسكري البرّي في الحرب.

والمفارقة أن ايران وتركيا، المتخاصمتان في سوريا، تركتا للصلح مطرحاً في علاقاتهما الثنائية، بينما الاشتباك المذهبي دائر بينهما بالواسطة في المنطقة. مفارقة اخرى أفرزها النزاع: التقارب المفيد بين واشنطن وموسكو. فلكلّ من الطرفين مصلحة لاحتواء النزاع وإيجاد تسوية سياسية. وعلى رغم هذه التخمة من النزاعات، اسرائيل محيّدة برضى أو تواطؤ المتنازعين.

حرب اليمن زادت الأوضاع تعقيدا. ففيما أرادت الرياض إنجازاً في اليمن يمكن توظيف مردوده في سوريا، إلا ان النتائج جاءت مخيّبة. الفراغ الذي أحدثه غياب واشنطن عن الساحة السورية لم تستطع أن تملأه أنقرة أو الرياض، ولم تعد مسألة التصدي للإرهاب المعولم تحتمل الانتظار والتسويف. ولم تسلم باريس من إرهاب «داعش»، ما حمل فرنسا، الأعلى صوتاً في أوروبا لإسقاط النظام، على المشاركة في التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب.

الحرب السورية، شأنها شأن النزاعات العسكرية الطويلة الأمد، تتأثر بعوامل عدة، لعل أبرزها عامِلا الصدفة والمجهول. الربيع العربي وصل منهكاً الى سوريا، سبقته حرب العراق والفوضى التي تلتها، ما أعطى دمشق هامشاً لالتقاط الأنفاس والاستفادة من تجارب الآخرين. أما المعارضة فاعتبرت أن التحولات التي حصلت في دول المنطقة يمكن استنساخها في سوريا، والمطلوب دعم خارجي، سرعان ما أتى لكن في الاتجاه المعاكس، فكانت موسكو أكثر عزماً من واشنطن لأسباب غير مرتبطة حصراً بالشأن السوري. ففي سوريا منازلة بديلة من مواجهة معلّقة بين روسيا والدول الغربية في أوروبا. كما أن الالتفاف الأميركي على قرار مجلس الأمن في ليبيا دفع موسكو لعدم تكرار الخطأ الليبي في سوريا. وها هي روسيا تعلن إعادة تموضع عسكري في سوريا غير واضح المعالم لأسباب مرتبطة بحسابات الرئيس بوتين، فلا تقع موسكو في وحول حروب مكلفة بلا مردود، فتتجنّب الفشل السوفياتي في أفغانستان والأميركي في العراق.

صمد النظام ولم تصمد سوريا، وباتت الحلول مرتبطة بموازين القوى العسكرية، وهي بدورها في قبضة الدول المؤثرة في مسار النزاع، لا سيما روسيا. الواقع الميداني ليس بديلاً من الحل السياسي، الممرّ الإلزامي لأي تسوية. تلازم المسارين مفتاح لحلول لم تتّضح مضامينها أو ظروف إقرارها. المرحلة الانتقالية انطلقت باتجاه الممكن، لا المستحيل، لتظهير تسوية يصعب أن تُرضي أطراف النزاع جميعها في حروب لم تعد تخص سوريا وحدها، بل معظم الدول النافذة في المنطقة والعالم.