على رغم كلّ ما يظهر من مواقف لروسيا حول الملف السوري، لا تبدو الأوساط الديبلوماسية الأميركية قلقة من مسار التطوّرات الجاري رسمه في العواصم الغربية.
ذلك أنّ ثمة آلية بوشر العمل على ترتيب قاعدتها وهو ما ظهر من خلال الإعلان عن تشكيل مجموعتين وبنحوٍ متزامن: الأولى التي أعلنت عنها واشنطن وتتعلّق بلجنة سداسية حول سوريا وتضمّ الولايات المتحدة الاميركية وروسيا وايران والسعودية وتركيا ومصر. والثانية رباعية وتشير الى تعاون أمني حول العراق وتضمّ روسيا وايران والعراق وسوريا.
وبغضّ النظر عن الموقف التكتيّ لروسيا حول مشاركتها في اللجنة السداسية وهامش المناورة الذي تلعب من ضمنه لأهداف تتعلّق بإنجاح مهمتها، إلّا أنّه لا بدّ من قراءة كلّ الحركة الروسية وخلفياتها الفعلية.
فمنذ فترة غير بعيدة أعلن مدير وكالة الاستخبارات الاميركية جون برينان امام ديبلوماسيين عرب في واشنطن أنّ روسيا التزمت التعاون مع جهازه طوال الحرب الدائرة في سوريا في مجالات الامن وتمدّد العناصر الارهابية خارج نطاق الاقليم. وأضاف: «نحن نتشاور ونتواصل في استمرار مع نظرائنا الروس».
وكان إعلان برينان هذا واضحاً، خصوصاً في الفترة التي شهدت ازمة السلاح الكيماوي في سوريا. يومها بدا اللقاء بين الرئيسين الاميركي والروسي في موسكو كارثياً بالنسبة إلى الأميركيين ليتبيّن لاحقاً أنّ تنسيقاً مدروساً كان قائماً بين الجانبين تمّ خلاله رسم الاخراج المطلوب.
ومع التوصل إلى «الاتفاق الاطار» بين الدول الست وايران حول الملف النووي بدأ العمل الحثيث لصوغ اطار جديد للنزاع الدائر في سوريا.
يومها مثلاً نشطت الحركة السعودية في اتجاه موسكو بدعوة من القيادة الروسية ويومها أيضاً بدت التلميحات الروسية حول بقاء الرئيس بشار الأسد ولو لفترة انتقالية الى جانب تأليف حكومة تضمّ المعارضة السورية.
وتلا ذلك ترتيب روسي لزيارة كان من المفترض أن تبقى سرّية للواء السوري علي المملوك الى السعودية. ومن هنا يفهم تسريب خبر اللقاء من جهات محسوبة على ايران في اشارة فُهِم منها رفض طهران حصول أيّ تسويات لسوريا من وراء ظهرها.
وللذين يتذكّرون، فإنّه في تلك المرحلة تحدّث نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف الى السفير اللبناني معتبراً أنّ حظوظ العماد ميشال عون تضاءلت وأنّ الرئيس المقبل للجمهورية يجب أن يحظى بموافقة الجميع.
الواضح أنّ الترتيبات السورية كانت قد بدأت وأنّ لبنان سيستفيد من كلّ ذلك. لكنّ لروسيا مطالب أخرى وهو ما ظهر في خطاب الرئيس فلاديمير بوتين في الامم المتحدة حين انتقل الى الازمة الاوكرانية مباشرة بعد الحديث عن روسيا. ويُقال إنّ موسكو أعطت إشارات ميدانية لربطها بين الملفين مثل صمود وقف اطلاق النار شرق اوكرانيا بالتزامن مع إقامة جسر جوّي لنقل التعزيزات العسكرية الى سوريا.
في نيويورك، أظهَرت المواقف المعلَنة تعارضاً في بعض جوانب الملف السّوري، لكنّ لذلك أسبابه حسب بعض المطّلعين. فروسيا تريد هامشاً واسعاً لحركتها يسمح بالإمساك جيداً بالفريق الذي من المفترض أن تمثّله، فيما لدى الإدارة الاميركية نقاط كثيرة تريد تحقيقها من إظهار هذا التباين، وقد يكون في طليعتها إبراز خطر النزاع الحاصل في الشرق الاوسط وتسليط الضوء على مخاطر ذلك، خصوصاً أنّ أيلول هو شهر إقرار الموازنة المالية للسنة المقبلة، حيث يطمح رجال الادارة الاميركية في إقرار موازنة وافرة للدفاع القومي.
وكان مدعاة للسخرية أنّ تتداول وسائل الاعلام استيلاء «جبهة النصرة» على سلاح بضع عشرات من المعارضة السورية درّبتهم وجهّزتهم واشنطن للقتال في سوريا.
بالتّأكيد كانت واشنطن قادرة على تدريب الألوف من هؤلاء، كما أنها كانت قادرة على تأمين ممرّات آمنة لهم للوصول الى ساحات القتال. لكنّها قد تكون أرادت القول إنْ لا حلول بديلة جدية لإزاحة الاسد، بدليل ما حصل لمن درّبتهم.
وتكشف اوساط ديبلوماسية مطلعة أنّ السعودية التي تعطي الاولوية المطلقة لليمن، لم ترفض اللقاء مع ايران. لكنها تريد لذلك أن يأتي تتويجاً لحصول الاتفاق، كون التجارب التفاوضية السابقة لا تشجع في هذا المضمار، لذلك فهي تبدو جاهزة بعد إنجاز تفاهم مع ايران حول سوريا.
ومن النّقاط التي يتمّ تداولها في كواليس التفاوض، ضمان روسي لواشنطن بأنْ لا يتقدّم الجيش السوري في اتجاه المناطق التي ستنتزع من «داعش» بعد بدء الضربات الجوّية، وأن تُستبعد «النصرة» عن القوى التي ستشارك في التقدّم البري. وفي هذا الاطار كانت تركيا قد طلبت من «النصرة» تغيير اسمها وانتقالها الى إطار تنظيمي وعقائدي جديدَين، لكنّ قيادة «النصرة» رفضت الطلب وهاجمت تركيا.
وفي كواليس التفاوض، نقاشٌ حول شكل الحكومة الجديدة وطريقة تقاسم الحقائب، إضافة الى صورة الدولة وطريقة تعاملها مع الوقائع والمتغيّرات الميدانية التي أدّت الى فرز مناطق صافية الولاء هنا وهناك.
أما بالنسبة إلى الرئاسة السورية، فيتردّد أنّ الرياض لم تعد تمانع بفترة انتقالية للاسد تصل الى سنة ونصف السنة، في مقابل تمسّك ايراني بإنهاء الاسد كلّ ولايته الدستورية وترك الاختيار للانتخابات، فيما برز رأيٌ ثالث بإعطاء الاسد حق اختيار خليفته.
ويُقال إنّ ايران قالت في القنوات المفتوحة إنها صدّقت الوعود في العراق بأنّ استبدال نوري المالكي ينهي المشكلة، فيما النتيجة جاءت مغايرة. كلّ هذا النقاش يوحي بأنّ المسار لا يزال طويلاً وشائكاً لكنّه لا يلغي فكرة أنّ ثمة شيئاً بدأ، وأنّ روسيا التي أصبحت حاضرة بقوّتها الدولية وقواها العسكرية ستتولّى مهمة كبيرة انطلاقاً من سوريا وعنوانها ربما ضمان وضع الأقليات في الشرق الاوسط.
في هذا الوقت، تبقى الجَبهات مفتوحة:
في العراق «داعش» موجودة والسلطة فشلت في طردها من الرمادي، ويدور كلام عن أنْ لا حلّ سوى باستعادة تجربة «الصحوات» على أساس أنْ لا حلّ في المناطق «السنّية» سوى عبر قوى سنّية.
وفي سوريا استكمال للفرز الميداني وإنجاز ذلك من خلال ترتيب انتقال المجموعات من هذه المنطقة الى تلك. وفي لبنان، أزمة سياسية تشتدّ ومكتوب لها أن تنتظر اختراقاً حاسماً في الملف السوري.
هناك مَن يقول إنّ الحظّ هو كناية عن استعداد جيّد وتحضير ممتاز لملاقاة الفرصة حين يأتي أوانها. فهل استعدّ اللبنانيون للفرص التي قد تظهر انطلاقاً من سوريا؟