تحدثنا في مقال سابق عن الوضع في سورية «بين الحرب الصعبة والسلام المستحيل» (الحياة، السبت، ٣٠/1/٢٠١٦)، واليوم نتابع في سياق متصل في ضوء توافر معطيات جديدة خلال الساعات القليلة الماضية تجب الإضاءة عليها.
وكيلا الدفاع والهجوم في الحرب السورية يتحدثان لغة جديدة، في مسار هذه الحرب، تؤشر إلى اتخاذ الوضع بعض «المناحي الجديدة» بعد خمس سنوات ويزيد من شتى أنواع الحروب بين الفصائل المتعددة في ما يشبه «الحرب الكونية الثالثة».
ونتساءل: هل تعب المحاربون، كل المحاربين، من الحرب؟ فالأخطار التي أفرزتها تخطت كل الحدود والتقديرات والحسابات الخاطئة ولا يمكن أن تستمر الأوضاع على ما هي عليه.
لقد بدأت تفاصيل المستجد من التطورات مع إعلان المندوب الروسي الدائم في الامم المتحدة السفير فيتالي تشوركين أن روسيا تناقش مع الولايات المتحدة «مقترحات للتوصل إلى هدنة في سورية». وكشفت معلومات ذات صلة مباشرة أن موسكو قدمت بعض الاقتراحات لوقف إطلاق النار ابتداء من اول آذار (مارس) المقبل. لكن على ما يبدو فإن واشنطن تساورها شكوك ومخاوف من بعض بنود المقترحات الروسية، وهذا يعود إلى عامل الثقة المفقود بينهما، على رغم وجود بعض المؤشرات التي تؤكد «تعاون الجانبين» في شكل وثيق في الميدان السوري.
ومما يضفي على المعلومات الجديدة أهمية خاصة إعلان وزير الخارجية الاميركي جون كيري خلال الساعات الماضية «ان الولايات المتحدة تقترب من لحظة حاسمة في سورية، فإما أن نحرز تقدماً في اتجاه وقف النار، وإما أن نبدأ التحرك باتجاه «الخطة ب»، وعمليات عسكرية جديدة». ويأمل كيري «التوصل إلى وقف للنار يسمح بوصول المساعدات الإنسانية في أقرب وقت».
وتمضي المعلومات الصادرة عن واشنطن وأوساط الكونغرس تحديداً: إن الولايات المتحدة ملتزمة التوصل إلى وقف للنار، ولكن عليها أن تدرس خيارات أخرى اذا فشلت الديبلوماسية، وعليها أن تفكر في «صورة استباقية». وفي التصور الاميركي لما يجرى، إن الغارات الجوية الروسية تعزز التنظيم المتشدد (داعش) لما تلحقه من خسائر بمقاتلي المعارضة المدعومين من الولايات المتحدة.
وتقاطعت هذه المعلومات الواردة من واشنطن ونيويورك وموسكو مع تصريح وزير الخارجية السعودي عادل الجبير بأن المملكة ستكون مستعدة لإرسال قوات خاصة إلى سورية، إذا ما قرر الائتلاف الدولي نشر قوات برية لمحاربة الارهابيين بخاصة «داعش».
ولا يخفى على أحد ما أثاره الحديث عن الحرب البرية من مشاعر القلق اقليمياً ودولياً. فقد حذر رئيس وزراء العراق حيدر العبادي من «التصعيد الخطير اذا ما تم إرسال قوات برية إلى سورية». وكرر دعوته إلى حل سياسي، لأن إرسال قوات برية «سيؤدي إلى تصعيد خطير للأزمة».
وفي خضم هذه التطورات، يشار إلى الزيارة التي سيقوم بها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز إلى موسكو، وكشف الناطق باسم الكرملين يوري اوشاكوف «ان الملك سلمان سيزور روسيا منتصف آذار (مارس) المقبل، وان العمل جارٍ على إعداد جدول أعمال الزيارة». ولا شك في أن الحرب السورية ستكون من المواضيع الرئيسة للتداول في موسكو.
هذا على الصعيد السياسي العام، أما على الصعيد الميداني، فالنتائج الكارثية التي أدت اليها المواجهات العنيفة في مدينة حلب وريفها، أحدثت موجة عارمة من النزوح الشعبي. وتقدر مصادر الصليب الأحمر الدولي وجود ما يزيد على خمسين الف نازح على الحدود مع تركيا، وهم يعانون أزمة إنسانية خطيرة بخاصة لجهة الصعوبات اللوجستية لإيصال المواد الغذائية اليهم، وبينهم الكثير من الأطفال والنساء.
ومن المفارقات ان تركيا كانت الدولة الأولى التي أقامت المخيمات للنازحين حتى قبل بدء تدفقهم من سورية، لكن انقره الآن تمتنع عن فتح الحدود، لأنها تشكو من كثرة عددهم والمشاكل المتعلقة بهم سواء في الداخل التركي او على الحدود.
وهنا نفتح المزدوجين للإشارة إلى أمر خطير ارتبط بالنزوح، حيث قالت المخابرات الألمانية واخرى تابعة لبعض الدول الاوروبية أن بعض الارهابيين تسللوا بين صفوف النازحين وانتقلوا إلى بعض هذه الدول، الامر الذي استدعى استنفار أجهزة الأمن فيها، وبالتالي اتخاذ التدابير الصارمة بمنع دخول المزيد من النازحين إلى هذه الدول. وفي هذا التوقيت أعلنت المصادر الاميركية المطلعة انخفاض عدد مقاتلي «داعش» من 61 الف مقاتل إلى 25 الفاً.
والسؤال: ما هذه الدقة الاميركية في إحصاء عدد مقاتلي «داعش» فيما كانت تصر على نفي علمها بكيفية نشوء هذا التنظيم بين سورية والعراق؟ هل تريد اميركا ومعها روسيا الإقناع بأن العالم الموجود في سورية أرضاً وبحراً وجواً، والذي يعلن كله انه يقاتل «داعش»، عاجز عن القضاء عليها؟
وفي سياق متصل يشار إلى مقالة الصحافي الاميركي المعروف ديفيد إغناتيوس في واشنطن بوست، وهو من صناع القرار في واشنطن، حيث كتب: «يتعين على مرشحي الحزبين الديموقراطي والجمهوري الموافقة على حقيقة السياسية الخارجية الاميركية، وهي أن قدرات «داعش» لم تنحسر. فبعد ثمانية عشر شهراً عملت فيها الولايات المتحدة على تقليص قدراته والقضاء عليه كلياً أصبح «داعش» قوة عالمية بمقدورها ضرب أهداف في اوروبا وآسيا وأفريقيا واميركا». ويضيف: «إن الخلافة التي أعلنها داعش في حزيران (يونيو) 2014 والتي تمركزت في العراق وسورية أصبح لها الآن نحو خمسين فرعاً او جماعة موالية في 21 دولة، وأعلنت سيطرتها على 33 منطقة في 11 دولة من هذه الدول». وهذه معلومات في غاية الخطورة.
وتقول ريتا كاتز، من مؤسسي موقع «سايت انتليجنس غروب»، إن أول خطوة في محاربة «داعش» هي التوقف عن وصف المتطرفين كمجرد عصابة من الشباب تنتقل على شاحنات، بل يجب ان نعتبرها تهديداً للأمن الدولي. فالمشكلة لن تنتهي بل ستتفاقم.
وحول الوضع المتفجر في سورية، يُستحسن استرجاع حرفية ما ورد على لسان وزير خارجية بريطانيا فيليب هاموند. فقد وجه اللوم إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لتأييده، بالكلام فقط، عملية سياسية تهدف إلى وضع نهاية للحرب الأهلية، بينما يقصف خصوماً لبشار الاسد يأمل الغرب بأنهم قد يشكّلون سورية حالما يرحل الاسد. وعندما بدأت روسيا الضربات الجوية في أيلول (سبتمبر) الماضي رجح بوتين كفة الحرب لمصلحة الاسد، بعدما تعرض الرئيس السوري لانتكاسات كبيرة في وقت سابق من 2015، جعلت جماعات من مقاتلي المعارضة قريبة من معقل الطائفة العلوية التي ينتمي اليها على الساحل السوري.
وهذه هي المرة الأولى التي تسمي فيها لندن الأمور بأسمائها بخاصة في ما يتصل بــ «معقل الطائفة العلوية»، وهذا ليس زلة لسان، والانكليز يعنون ما يقولون عادة.
إلى ماذا يؤشر كلام وزير خارجية بريطانيا؟
إنه، بكل وضوح، يتحدث عن تقسيم آت لسورية عبر إقامة الدولة العلوية إلى جانب تقسيمات أخرى يتم الإعداد لها. ويضيف هاموند: «إن التدخل الروسي كان انتكاسة كبيرة للجهود الدولية لإيجاد حل سياسي للأزمة… وتأثير التدخل هو تقوية داعش»، ويضيف في أعنف حملة على موسكو: «من المستحيل معرفة ما يريده بوتين… ليست لدينا فكرة عن خطة اللعب في الكرملين… ولا يوجد مستشارون يناقشون هذه الامور. إنها ما يدور في رأس السيد بوتين».
وبعد…
نستنتج مما تقدم أن مجموعة تطورات تؤشر إلى أن الوضع في سورية يبدو مقبلاً على تطورات «من نوع جديد».
سواء تعب المقاتلون من ذوي الجنسيات المتعددة براً وبحراً وجواً أم لا، فالوضع الإنساني حالة كارثية لم يعد ممكناً ولا سهلاً تحمل تبعاته على مختلف الصعد. وبموازاة ذلك تطرح المعلومات «الجديدة» المتوافرة السؤال المحوري التالي: هل إن الحرب السورية مصمم لها أن تنتهي عند هذا الحد؟
والجواب: من غير المنطقي أن تقف الحرب عند هذا الحد فحسب، واذا ما نجحت مساعي التوصل لوقف إطلاق النار قريباً فستكون محطة عابرة لمراحل أخرى أكثر جذرية ومأسوية وتعقيداً، ومن غير المستبعد بلوغ الوضع السوري «أبغض الحلال»، ما يعني ذلك اقتراب مخطط تقسيم سورية من مرحلة النضوج أو الإنضاج؟
فكلام هاموند ليس تعبيراً اعتباطياً، فهو يعني ما يقول عندما يشير إلى «معقل الطائفة العلوية» على الساحل السوري.
أما عن احتمال اندساس إرهابيين في صفوف النازحين، فكانت مستشارة ألمانيا انغيلا مركل في انقره حيث اتفقت مع الرئيس رجب طيب اردوغان على طلب مساعدة قوات حلف شمالي الأطلسي لضبط الحدود البحرية من تسلل الارهابيين مع النازحين، وقد بدأ الحلف تسيير دوريات لمراقبة بعض السواحل بخاصة في تركيا واليونان، حيث ظهرت مع النزوح الجماعي مافيات كبيرة، تفرض الأموال على النازحين في بعض السفن، علماً بالمخاطر التي تحدّق بهذه السفن غير المجهزة بالحد الأدنى من السلامة العامة.
ومهما كانت التقديرات في خصوص التوصل إلى وقف لإطلاق النار قبل الأول من آذار المقبل، أو حصول المزيد من التصعيد، فإن الحرب في سورية بدت مرهقة لجميع المشاركين والمتورطين فيها. وعلى المعارضات أن تعيد تنظيم صفوفها وخفض التعدديات في ما بينها لأن ما حدث في «جنيف -3» الأسبوع الفائت كان مهزلة محادثات، ولم يكن محادثات بالمعنى الصحيح والفعلي للكلمة.