تثير عبارة «الخوف على الأقلّيات» غضَباً كبيراً لبعض قوى الإسلام السياسي النشِطة في سوريا، والسبب ليس لأنّها مُحتضنة دولياً، بل لأنّها تنال حظوةً إعلامية عند ارتكاب مجازر في حقّها، بينما كمّية المجازر اليومية في حقّ الأكثرية السُنّية لا تلقى الاهتمامَ الكافي. وهذا الغضَب بدأ بالتنامي في الفترة الأخيرة ليصبحَ خطاباً سنّياً عامّاً في منطقة الشرق الأوسط.
فعلياً، الجريح يتمنّى المساعدة من الجميع، ويتوقّعها كأمر بديهي، خصوصاً إنْ كانَ لا يشعر ضمنياً أنّه متطرّف، فسُنّة سوريا عموماً هم كذلك، ولكن هل السُنّة أكثرية في سوريا؟ وهل السُنّة أمّةٌ كما يَفتخر دعاة الإسلام السياسي؟
إنّ مَن يعرف العشائر العربية والكُردية وميولها السياسية والدينية والثقافية، يدرك أنّ سُنّة الجزيرة السورية متفرّقون، ولا يمكنه أن يجدَ قاسماً يَجمعهم حول هوية واحدة، ولكن مِن الممكن توحيد بعضِهم وفقَ ميولٍ قومية عرقية. وعند انتصار قوميّة عرقية على أخرى، فلا بدّ وأن تعود لوحة التنافس الداخلية بين قوى القومية الواحدة.
ومَن يَتمعَّن في محافظة حلب يرى فجوةً هائلة ليس بين السُنّة والمسيحيين كما يرَوّج النظام السوري، بل فجوة كبيرة بين سُنّة المدينة والريف، وهذا الأمر تمَّت ترجمته ميدانياً عبر تحالفِ قسمٍ كبير من سُنّة المدينة مع النظام وتطوّعِهم في ميليشياته ولجانِ دفاعِه، في حين توحّد الريف السُنّي ضد النظام.
وعندما سيطرَت المعارضة على ريف حلب الشاسع، لم تتوحّد في فريق عسكري أو سياسي واحد، بل ابتكرَت كلّ ناحية أو مجموعة بشرية كبيرة نسبياً فريقاً عسكرياً يمثّلها، وهذا يَنفي فكرةَ أنّ السنّة أمّة أو هم أكثرية منظّمة قابلة للتنظيم السياسي والاجتماعي.
في جنوبي حلب، وتحديداً في مدينة إدلب التي فرحَ كثيرون من سياسيّي السُنّة بأنّهم حرّروها من النظام، نراهم غيرَ راغبين بنقل مقرّات عملِهم من اسطنبول إليها، والسبب بسيط، وهو أنّ قسماً كبيراً من مقاتلي النصرة وأحرار الشام وجند الأقصى سرَقوا منازل إدلب ومصارفَها، والسارق لا يمكن أن يكون صاحب مشروع حماية للمدنيين على رغم أنّه يَحمل راية «ألله أكبر».
بعيداً مِن عسكرة المجتمع السوري، هناك خصائص إجتماعية معروفة في سوريا، ولعلّ أبرزَها أنّ سُنّة حماه يقبَلون مسيحيّي حماه برحابة صدر أكثر مِن احتفائهم بسنّة دير الزور أو درعا، وأكبر تأكيد على ذلك هو أنّ تنظيم «الإخوان المسلمين» في سوريا يَشهد تاريخياً نزاعاً بين إخوان حماه وإخوان حلب! ومَن يعِش الحياة التجارية في سوريا يدرك أنّ التاجرَ الحلبي يتنافس مع التاجر الشامي، وهناك نوع مِن الخصومة غير المعلنة.
وإن تعرّفتَ على حورانيّ «مِن محافظة درعا» تراه معتزّاً بنَسَبِه القديم «عشائر الغساسنة» أكثرَ مِن اعتزازه بالقومية العربية، على رغم أنّ غالبية أبناء درعا بَعثيّون! وإنْ تمعّنّا بسُنّة الساحل نراهم أكثرَ تحرّراً مِن عموم سنّة سوريا، ويتعاطون بفوقيّة مع سنّة إدلب ويُلقّبونهم بلقب «الشريقية»!
وهذا ما يُظهِر أنّ سنّة سوريا ليسوا لوناً واحداً، ولا يمكن ان يكونوا لوناً واحداً، ولعلّ الجميلَ في سنّة سوريا أنّهم هكذا متنوّعون ومتنافسون.
وهذا في حقّ يَجعلهم الأقلّية الأكثر تنَوّعاً في سوريا، وللأسف هم الأقلّية الأقلّ تنظيماً.
والجميل في الأقلّية السنّية السورية، أنّها لا تعاني من أمراض الأقلّيات الأخرى، القائمة على الخوف. فالأقلّية السنّية تَنظر لنفسِها على أنّها المالك الطبيعي للأرض فلماذا عليها أن تخاف؟ بل عليها واجب الحماية والاحتضان.
فعلياً، مصيبة الأقلّية السنّية اليوم أنّها عاجزة عن بناء ثقافة الحماية لنفسِها، ومطلوب منها حماية الآخرين وفقَ المعايير الدولية.
والخطير أنّ قادة الإسلام السياسي السوري الذين يشَوّهون هويّة السنّة المعتدلين يَدَّعون في أروقة المؤتمرات الدولية أنّهم كفيلون بحماية الأقلّيات إنْ حَكموا. ولكن كيف، وهم عاجزون عن إدارة مناطق سنّية صرفة إدارةً ناجحة!
وأكبر تأكيد على ذلك، أنّ قسماً كبيراً من سنّة الداخل السوري نزحَ إلى مناطق سلطة النظام ليس حبّاً به بعد ارتكابه هذا الكمَّ مِن الجرائم، بل لأنّه الميليشيا السورية الوحيدة القادرة على تأمين الخدمات الأساسية للمدنيين ولو في حدودها الدنيا.
فعلياً الدافع المصلحيّ جعلَ الكثيرَ من سُنّة سوريا في طليعة مؤيّدي نظام الأسد الذي ما يزال لليوم يقدّم الرواتبَ لموظفيه السُنّة، ويَلتزم بديمومةَِ دفعِ الإستحقاقات الشهرية لمقاتلي ميليشياته، بينما نرى هذا الأمر غيرَ منضبط في صفوف ميليشيات المعارضة المسلّحة باستثناء تنظيمَي الدولة الإسلامية و«النصرة» التي كسبَت عدداً كبيراً من المقاتلين لأنّها تلتزم بدفعِ رواتب ثابتة. في حين فشلَت إدارة أركان الجيش الحر في ذلك، ففرّ كثيرٌ مِن المقاتلين إلى خيَم النازحين والقِسم الآخر توزَّعَ بين كتائب إسلامية متفرّقة.
والغريب اليوم، أنّ قيادات الإسلام السياسي في سوريا لا تزال ترَوّج لخطابها السابق وهو أنّ «السُنّة ليسوا طائفة بل هم أمّة»، يقولون هذا الأمر ويتجاهلون أنّهم ردّدوا في شهر نيسان 2011 أنّ تركيا لن تسمحَ بمذبحة في اللاذقية تجاه السُنّة، وعندما حدثَت المجزرة الأولى «ساحة العلبي» وأتبِعت بمجزرة «محطة القطار» سَكتوا جميعاً، لكنّهم ما لبثوا أن ردّدوا فكرة أنّ العالم الإسلامي لن يسكتَ عن هدمِ مأذنةِ جامعٍ سُنّي يُدمّرها النظام، وحتى اليوم لا أستطيع إحصاءَ عددِ المآذن المدمّرة ودُور العبادة المهشّمة ببربرية قلَّ نظيرُها في التاريخ الحديث، دون تحرّكِِ حقيقيّ ونافذ… هذه الأمور أدركَها الشعب السوري غيرُ المتطرّف، وهو ما دفعَه لترداد عبارة عفوية هي «يا ألله مالنا غيرك يا ألله».
سُنّة سوريا اليوم هم الأقلّية الجريحة التي حملت العبءَ الأكبر في سوريا، علينا جميعاً أن نضَمّدَ جراحَها، لأنّها لا يمكن أن تتحوّلَ إلى التطرّف، فهي ولِدت لتحضنَ تنوّعَ سوريا الجميل… وهذا التنوّع حُكماً سيستمرّ.