مع تسارع الأحداث في هذه الأيام المعقدة في وجودها وحقيقتها ومحلّها من الإعراب والتفسير والتنظير، ومكانها الواقعي على جملة الخرائط الأممية والمناطقية المتداخلة بعضاً ببعض، سواء في إطار توافق تحت الطاولات، أم في إطار تعارض وتصادم مصالح، ومع التقدير الكامل بأن أحداثنا الداخلية مربوطة ومعقودٌ سيرها ولواؤها بالخارج، الذي يمعن في هذه الأيام كل من جهته وزاويته في تحقيق مصالحه وحدها، دون أي اعتبار لأي حق محليّ، وذلك من خلال تمزيق الأرض والأوطان والشعوب وزلزلتها إلى أقصى حد من الإرتجاجات المدمرة تحقيقاً لأقصى حد من المصالح والمكاسب والأرباح.
في خضم ذلك، يتفهم المواطن الغارق في أفواج وأمواج معاناته، جملة من الوقائع الحاصلة، ولكنه لا يفهمها ولا يتقبلها، دون أن تنطلق من ذاته ومن حوله، أصوات كثيرة تعارضها وتجد فيها نوعاً من طمر الرؤوس في الرمّال، وكثيراً من معالم الضحك على الذقون التي أصبحت سائدة وشاملة في هذه الأيام.
أمام ما يسمعه المواطنون من أقوال غير مسبوقة في تهورها ورفع سقفها في الخطب والتصاريح التي يجمع اللبنانيون بصددها على تقديرهم الكامل لمناسبتها الكريمة، وعلى تأكيد احترامهم لها، خاصة وأنها في أصلها ومنبعها، تؤكد على ذلك الدفاع المستميت لسيدنا الحسين عن الحق والحقيقة، وعن تلك المبادئ والممارسات التي أطلقها ضد الظلم والظالمين، والتي تخالف في أصالتها وعدالتها وسموها الإنساني والأخلاقي والديني، كل ما سمعناه في كثير من مناسبات هذه الأيام التي انقلبت فيها منابر متعددة يفترض أن تكون ذات طابع ديني وروحاني متجرّد، فإذا بها منابر سياسية تجنح مع الأسف الشديد إلى كل المكامن المذهبية والمواقع التحريضية التي لا يمكن إلا أن تترك أثرها السيئ على ما تبقّى من مداميك ومواقع وآثار الوحدة الإسلامية، خاصة إذا كانت صادرة من منابر محلية مسؤولة، ذات فعل وأثر.
ولا نريد العودة إلى تفاصيل ما شهدناه وسمعناه في تلك المناسبة، فمجرد إعادة ذكر ما تم ذكره، يعتبر إسهاماً غير مقصود في نشر افتراءاتها وبُعدها عن الحق والحقيقة، وهو ما نحاول تجنبه قدر الإمكان… ولكن عندما تصل إلى أسماعنا أقوال عاجزة عن تقبّل أية مواقف وأية أقوال تشكو من وقائع مؤسفة بل مدمرة تتنصل من أية مسؤولية عن منع تحقيق الخطة الأمنية التي تولّاها وزير الداخلية في كل مكان من لبنان فنجح إلى حدود بعيدة، إلا في المنطقة البقاعية، التي تركت لفلتان أمني مرعب، إرتكب فيها الخارجون عن القانون ما يناهز المائتين وخمسين اعتداء جرمي خلال أربعة عشر شهرا، بعضها من أعلى مستويات الإجرام المتمثلة في خطف المواطنين اللبنانيين والأجانب، واستمرار الإتجار الواسع بالممنوعات وبينها أخطر صنوف المخدرات، فضلاً عن سرقة السيارات والتعدّي على الناس بشتى صنوفه وأشكاله. لمجرد إبداء موقف حازم من وزير الداخلية له علاقة بالوضع الشاذ بعد سكوت مقصود من قبله ما يقارب العام الكامل، عبّر مؤخراً عمّا يفرضه عليه الواجب وصرخات الناس واحتجاجاتهم واستغاثاتهم، فقوبل مع الأسف، بذلك الموقف المتعالي على الحقائق الدامغة والمصلحة الوطنية والشعبية والمواطنية العليا بالقول «المأثور» «اللي ما عاجبو… يفلّ من الحوار… ومن الحكومة، ومع السلامة»!!! كما وأتحفنا مؤخراً بأقوال ومزاعم مؤسفة وبينها ما طاول وتطاول على المملكة العربية السعودية التي لطالما كانت وما زالت، سندا للبنان في الملمات والمصائب ومن بينها ما قدمته له عقب العدوان الإسرائيلي بعد حرب تموز وعملية الدعم وإعادة الإعمار التي تبنتها السعودية ودول الخليج، وليس مسموحاً أن ينسى اللبنانيون ما لهم ولإخوتهم في الوطن من أعمال ومصالح كبيرة الحجم والأثر من دعم الإقتصاد الوطني اللبناني وآلاف العائلات اللبنانية التي تعتاش من جنى أبنائها في قطاعات ممتدة على مجمل أراضي المملكة والخليج العربي كله. إنه الجحود بأوضح صورة وهناك أفواج وأمواج من الأضرار المادية والمؤثرة باتت في إطار التوقع والإحتمال، وكأنما المقصود من كل ذلك الإمعان في زيادة الشرخ الوطني والإسلامي إلى اقصى الحدود، وإلى تجاوزٍ كامل للسدود والمحرّمات الإسلامية والوطنية.
وبعد كل هذا الكلام الإحتفالي «الهاديء والرصين» أُبلغنا بأن قائله سيشارك في ما هو مقبل من جلسات حوارية، وعليه نتساءل مع المتسائلين: بعد كل هذا التصعيد المؤسف، وبعد الإستمرار في عمليات نحر الحكم والسلطات الدستورية كافة، وبعد الإستمرار في الرضوخ للسياسة الإيرانية وإمساكها بكل الخيوط المحّركة، نتساءل بين المتسائلين: «حوار إيه… اللّي انتَ بتقول عليه»!، سواء كان ذلك… الحوار الوطني الشامل، ام الحوار ما بين تيار المستقبل والحزب.
يتفهم اللبناني أن يكون أمثال هذين الحوارين، يستهدف ترطيب الأجواء وتهدئتها إلى أن يحنّ علينا الخارج بفرض تسوية ما، تعيد الجميع إلى أمكنتهم في الصف وإلى هدوئهم وسكوتهم وإنصاتهم الدقيق لشروحات «الأستاذ»، ولكنهم لا يفهمون مطلقاً ما هم بصدده اليوم من مؤشرات التحدي والتحريض وتعميق الجروح، كأنما يطلب من فريق أن يستمع ويلبّي ويرضخ فقط، وأن يكون موقفه مجملاً من صمت ورضوخ لما رُشق به من أقوال وإملاءات مؤسفة ما أنزل الله بها من سلطان، وقبول غير مشروط لمطالب الجهة الأخرى، التي أعطت لنفسها حق الإمرة، وهي غارقة حتى أذنيها في القتال وعمليات القتل في سوريا، وفي الترويج لشخص معيّن رئيسا للجمهورية لا شريك له ولا بديل، وفي عملية مستمرّة لترسيخ أسس يشغل لها لتوسيع الدويلة إلى حجم دولة تحلّ محل الدولة القائمة والنظام الميثاقي الذي يجري تهديم أسسه بصورة مبرمجة على وقع تصميم تنطلق مخططاته ودعاماته واستهدفاته، من مكان بعيد بعيد، يصادم كل المصالح اللبنانية وأسس الوطن الكيانية والميثاقية.
في خضم كل هذه الأحداث الملتهبة والكلام مرتفع الصوت والوتيرة، مضافاً إليه أزمة تعادل في حجمها المعنوي كل أحجام الأزمات الأخرى متمثلة بأزمة الزبالة ومجرياتها وسط الحواميل الشتوية والسواقي والأنهار وصولاً في جريانها إلى البحر توّا، وما ينتظرنا من خلال ذلك من ثورة وهيجان ضدنا وعلينا من البلدان المجاورة الممتدة على شواطئ المتوسط، لعل هناك من تفسير مفترض لهذه اللهجة وهذه اللكنة ولهذا التعالي، يستند إلى تغيير مهمّ ما، قد حصل على الساحة السورية لمصلحةٍ ما زالت في إطار التوقع والتمنّي، وقد أظهرت تطورات الأحداث في عمقها وحقيقتها أنها ليست كذلك، وبصورة خاصة، أنها لن تكون كذلك. إن التطورات السورية المتسارعة تثبت يوماً بعد يوم، أنها مطبّ كبير وقع في شَرَكه كثيرون.
في خضم ذلك كله، يعلو صوت الرئيس تمام سلام ويصعّد في أقواله وتهديداته المتوجبة والمشروعة، وصولاً إلى حدود التلويح بالإستقالة «المستحيلة»، وفي كل مواقفه وصوته المرتفع وتهديداته، ليس لدينا إلاّ أن ندعو له بمزيد من الحكمة ومزيد من الصبر… ولكن هو يردد، وكثيرون يرددون قبله ومعه ومن بعده: للصبر حدود.