ماذا لو توقف القتال في سوريا؟ السؤال ليس سابقاً لأوانه. الخسائر التي تكبدها الجيش السوري فتحت شهية التوقعات. منها: النظام آيل إلى نهايته، أو، الوقت مناسب لتقديم تنازلات، أو، ما بعد الاتفاق النووي يختلف عما قبله، أو أن التوازنات الإقليمية تفتح الطريق إلى تلمس بدايات لحلول المنطقة.
المشكلة لم تعد في استمرار الحرب. المشكلة في ما بعدها. من يتقدم من القوى الإقليمية أو الدولية، لصياغة حل، أو للضغط الضروري، لإلزام أطراف الصراع بقبول التفاوض عملياً لرسم مستقبل سوريا، ليس على الورق، بل على الأرض، التزاماً بمبدأ أن البنادق فشلت في السياسة ونجحت في التدمير.
ليس جديداً الصراع على سوريا. منذ استقلالها وهي مركز التنافس السياسي عليها. وقعت على مفترق الخيارات المتناقضة. مع من ستكون؟ مع الحلف الهاشمي أم مع الظهير السعودي أم مع مصر الناصرية. بين المثلث العربي، العراقي والمصري والسعودي، اختارت الوحدة مع مصر، ثم بعد الانفصال، تمزقت انقلابياً، خسرت الجولان، إلى أن استقرت في حضن حافظ الأسد، مستقوياً على أنداده، بانتصار تشرين وخروج السادات إلى كامب ديفيد، ودخوله لبنان. صار لدمشق صوت ونفوذ وموقف. ساعدها في ذلك، بروز قوة إيران، «حليفة» عابرة للنظام الرسمي العربي، مخترقة النسيج الشعبي العربي، متنكبة قضية فلسطين، التي خرج النظام الرسمي العربي من صفوفها، إلى شؤونه وشجونه.
دمشق القوية التي كانت لاعباً، صارت ملعباً. النظام يعاقَب على سياساته الداخلية، ويحارَب على خياراته الاستراتيجية الخارجية. الربيع العربي قرع أبوابها، لإصلاح جدي بشعار الحرية والديموقراطية. أغلق النظام الأبواب بقبضتيه. «الربيع» المختصر والدامي، أورث الساحة لخريف «الإسلاميين». حضر المثلث السني من الخارج، ممثلاً بالسعودية الوهابية، وتركيا الإخوانية، وقطر «النصرة». فُتحت المساحة السورية لتدفق السلاح والمقاتلين والأموال. أربع سنوات لم تسفر عن منتصر، ولم تحجم عن دمار.
السعودية، سيدة تمويل الحروب، خاضت الحرب مرتين بالأصالة. في اليمن، قاتلت الناصرية وألزمت الجيش المصري بالانسحاب، بعد هزيمة حزيران، ثم قاتلت وتقاتل الإيرانيين، الممثلين بالحوثيين أي «أنصار الله». «الخطر الإيراني» يقض مضجع السعودية. وتسعى إلى إقامة التوازن الميداني معها، حيثما وجدت… إيران التي اخترقت النظام الرسمي العربي، بات لها حضور وازن ومقرر في سوريا والعراق ولبنان. وهو ما لا تطيقه السعودية، التي خرجت من «عراق بوش» بخفي حنين، ولم يعوضها أوباما بجائزة. إزاء التقدم الإيراني، أخذت السعودية على عاتقها، إسقاط نوري المالكي في العراق، ولقد فعلت، وعلى إسقاط بشار الأسد في سوريا، ولم تنجح، وعلى منع الحوثيين بالقوة المدمرة الجوية، من قطف ثمار انتصاراتهم العسكرية الميدانية، وهي جادة في ذلك، برغم وحشية ما ترتكبه ضد المدنيين الأبرياء.
السعودية، ليست في وارد البحث عن حل في سوريا. لم يحن بعد أوان توظيف نتائج حروبها، ومنها في سوريا، للاستقرار على وضع.
إذا كانت قطر قد تراجعت سياسياً، فإن تركيا لا تزال تخوض حرباً في سوريا، متجنبة الاصطدام بإيران. وهذا ما لم تتجنبه السعودية.
لتركيا أولويتان، «داعش» ليس من ضمنهما. تتساوى عندها أولوية إسقاط النظام ومنع الأكراد من تحقيق أو إنجاز كيان سياسي لهم في سوريا. تختلف مع الأميركيين حول هاتين الأولويتين. أوباما، المنسحب من الحروب البرية، يدعم بفعالية معارك الأكراد في «كردستان» ضد «داعش» وفي كوباني وسواها من المواقع داخل سوريا… تركيا السنية تتوجس الهلال الشيعي، ليس من مصلحتها راهناً، الاشتراك مع التحالف الدولي في قتال «داعش»، لأن ذلك يصب في مصلحة النظام السوري والنفوذ الإيراني الشيعي في العراق وسوريا ولبنان وفلسطين.
اللاعب الإيراني في سوريا يخوض معركة منع انهيار النظام. انتقل من تسجيل الانتصارات إلى خنادق حماية آخر المعاقل في سوريا. هذا الإنهاك في سوريا، يضاف إليه تقدم وتوسع لـ «داعش» في العراق، وحرب بلا أفق في اليمن. حروب إيرانية على جبهات متعددة، بانتظار يوم التوقيع على النووي. بعده تدخل المنطقة في مدار الحلول المتدرجة، بالتفاهم مع واشنطن، صاحبة «العصا السحرية» المؤلمة، في فرض الحلول على حلفائها… قد يكون ذلك وهماً، ولكنه متداول.
من يتقدم إذاً لنسج الخيوط الأولى للحل في سوريا؟
النظام السوري ليس مستعداً للتنازل، إن كان منتصراً أو إن تعرّض إلى نكسة أو اضطر إلى تراجع أو لجأ إلى حصونه الأخيرة. وهو أمر يحرج حليفيه الكبيرين، روسيا وإيران. النظام ميؤوس من مبادراته.
لا بصيص لإمكانية إلا من خلال خصمين متعقلين، رسما خطوطاً حمراء في الصراع على سوريا: إيران وتركيا. ما بينهما من علاقات وتفاهمات، يرجح قيام مبادرات، لا احتكاك ما بين أنقرة وطهران. عكس ما هو عليه الأمر بين السعودية وإيران، حيث لا لغة غير لغة الحرب والعنف وتبادل الاتهامات.
هل الطريق سالكة ما بين طهران وأنقرة. ما حصة كل منهما؟ هل يستطيعان ضمان حصص الآخرين؟
يبدو أن مآلات الحرب في سوريا قد تحدِّد ما إذا كانت ستُقسم أم ستُقتسم. إذا تقسمت، فسنكون أمام دويلات بانتماءات مذهبية وعرقية، تحت إشراف دول إقليمية. أما إذا لم تُقسم، فستكون سلطتها موزعة على مكوّناتها التي أفرزتها الحرب، وهي مكوّنات ذات طابع مذهبي وأقوامي.
سوريا لمن أو مع من؟
يصعب القول إن سوريا، في الحالتين، لن تكون للسوريين وحدهم إلا بمعجزة. والله أغلق عينيه عما يُرتكب في سوريا.