IMLebanon

سوريا تنتصر؛ فرنجية رئيساً

في مطلع العدوان على سوريا، أدلى سليمان فرنجية بحديث تلفزيوني، سُئل فيه عن «مغامرته» بالوقوف إلى جانب الرئيس بشار الأسد؛ أجاب: أنا لا أقف مع الأسد لأنني متأكد من انتصاره؛ بل لأن هذا هو موقفي، بغض النظر عن النتيجة!

تذكرتُ ــــ بينما يوشك أصدقاء الأسد، على كسب الرهان ــــ وقفة العزّ تلك، وفكّرت أنه ليس مهما أن تختلف، مع السياسي، في هذه أو تلك؛ فالأهم هو صدقيته والتزامه؛ وفي وسط هذا الخراب المعياري والثقافي والنفسي، الذي يعم جميع القوى، قومية أو وطنية أو يسارية أو اسلامية الخ، صار علينا أن نبدأ من لحظة تأسيسية، لاغنى عنها، هي الالتزام الأخلاقي أولا.

للسياسة تعريفان؛ أنها «فن الممكن»… و«فن تطبيق الأخلاق في الحياة العامة». وأنا من أنصار دمج التعريفين؛ فلا تفريط ولا إفراط؛ الحركة المرنة في إطار الثوابت والمبادئ، ومن أجلها… لا عليها، ودائما من دون المساس بالكرامة؛ هذه هي مدرسة الرئيس الراحل حافظ الأسد، وقد تخرّج فيها سليمان فرنجية بامتياز.

الإخاء هو أمل بلادنا، لا التحريض العنصريّ، علناً أو ضمناً، على الشقيق الكبير الجريح؛ فإذا كنّا تجاوزنا الماضي، تقديراً للحاضر، فلا يعني ذلك أننا نوافق على أن حروب التحرير يمكن أن تقع… إلا في مواجهة الصهيونية والامبريالية الغربية والإرهاب.

لا يأخذ رجلُ الموقف، جمهوره، إلى المناورات، بل إلى الكلمة / المفتاح لقضية الحضور والدور المسيحيين في لبنان والمشرق … أي «العروبة». والعروبة هي دمشق… والحق في المقاومة: ليس لدى المسيحي المشرقي، إذاً، سوى عروبته ــــ دمشقه، وسلاحه، في مواجهة حرب الإلغاء الهمجية، في صيغتها التكفيرية الطائفية الفاشية العثمانية أو الليبرالية الكمبرادورية أو الصهيونية؛ وكلها قوى تعمل ضمن المنظومة الامبريالية التي استنزفت الوجود الديموغرافي لمسيحيي المشرق، وفي مقدمتهم الموارنة، بالمذابح، وبالإفقار وتدمير البنى الانتاجية في الجبل اللبناني وأنحاء الريف المشرقي، وبالطرد، بالقوة والضغوط، من فلسطين. الذبح والبطالة والعدوان، ثلاثيّ دينامو الهجرة المسيحية إلى حيث التلاشي.

في المعادلة الوطنية اللبنانية، يأتي فرنجية، في استطلاعات الرأي الخاصة بموقع رئيس الجمهورية، أوّلاً لدى السنّة والشيعة والدروز، وثانياً أو ثالثاً لدى المسيحيين؛ لكن رئيس لبنان هو رئيس كل اللبنانيين، وليس قائم مقام المتصرفيّة؛ إنما ليس هذا ما يهمني كمشرقيّ، بل ما يهم مسيحيي المشرق، أن يكون الرئيس المسيحي الوحيد في بلادنا، ممثِّلاً، بالمعنى الرمزي والمعنوي والنضالي، للمسيحية المشرقية، لا لطائفة لبنانية.

موقع رئيس الجمهورية اللبنانية ــــ في هذه المرحلة المفصلية من تاريخ قضية المسيحية، السياسية والثقافية والحضارية، في المشرق ــــ أكبر من المجلس النيابي والانتخابات… ومن لبنان الذي تغيّر جذرياً، منذ العام 2006 وحتى الآن؛ فتصلّبت حدوده مع العدو الإسرائيلي، وانفتحت مع سوريا، في معادلة المقاومة والوحدة، وقد تبيّن، بالملموس، أنهما تسيران في سياق واحد، كما هو حالُ أيِّ ممكنٍ تنموي أيضا.

رئيس لبنان المسيحي يغدو ضرورة تاريخية، حين ينتخبه ــــ في العمق لا في الاجراءات ــــ المشرقُ كلّه. وسوى ذلك، لا توجد معادلات لإنتاج «رئيس قويّ، « رئيس لا دمية! والمسألة لا تكمن، هنا، في قوة الشخص أو الشخصية أو الأنصار في «المتصرفية»، بل في قوة رأس المال الرمزي لتمثيل القضية.

والمسيحية المشرقية باتت، اليوم، قضية قومية، لا جملة مشكلات طائفية وأقلويّة؛ فالمسيحية ــــ كحضور اجتماعي ثقافي سياسي، لا كدين ــــ هي الرابط البنيوي لوحدة المشرق، وعنوان التعددية في بلاد تتعرّض للحرب على تراثها الحضاري الانساني وتنوّعها وقدراتها وناسها ومستقبلها. وقد صرنا إلى لحظة تاريخية، بات فيها على رئيس لبنان أن يرفع راية القضية، ويقاوم البربرية، ويبدأ من دمشق، كما بولص الرسول، القطيعة مع العصبيات العنصرية والطوائف، ويحمل صليبه، فداء للمشرق التعددي؛ بهذا المعنى تظل دمشق/ المركز / الرمز ــــ وليس النظام وأجهزته ــــ الناخب الذهبي للرئيس اللبناني.

لا يجوز، بعد، أن يكون الرئيس المسيحي المشرقي الوحيد، كيانياً لبنانياً، أو حليفاً للوهابية والنصرة والقاعدة الخ.

فدرالية المشرق هي التي تحوّل المسيحيين من «أقليات»، إلى كتلة اجتماعية ــــ سياسية وازنة في الكيف والكم، ودينامو للتقدم الاجتماعي، بينما فدرالية لبنان، تخلق نموذج الغيتو الذي، بقيامه، يصير مبررا تصفية الوجود المسيحي العربي كله، كما صفّت إسرائيل، الوجود اليهودي العربي، وحولت كتلة من صلب تكوين الأمة، إلى أداة لأعدائها الصهاينة والامبرياليين؛ لذلك، كان الكلام عن الفدرالية اللبنانية خطيراً لجهة أنه يتماهى مع الخطط الاستعمارية الدارجة، الآن، لتفتيت بلادنا. القول بفدرالة لبنان، لا يمكن تسويغه بحجة تحصيل « الحقوق»، وإلا صار طبيعياً أن ينفصل سنّة العراق في غيتو خاص، يضمن لهم حقوقهم المهدورة في الشراكة الوطنية. ليس هذا مجرد خطأ، بل خطيئة بحق المسيحيين اللبنانيين خارج المتصرفية، وبحق مسيحيي المشرق، المدعوين، إذاً، إلى الهجرة، طالما أنه ليس لهم محلٌ سياسي في كياناتهم أو محلٌ ديموغرافي في الغيتو.

مرة أخرى، وقف فرنجية، بحسم ومن دون التباس، مع المبادئ والوحدة والمصالح الوطنية ضد فدرلة لبنان؛ لذلك، أي لكونه يرفض فك الشراكة مع اللبنانيين، رغم المظلومية، ومع السوريين، رغم الأخطاء. انتزع، أخلاقياً، موقع الرئيس.