IMLebanon

سوريا ورطة الجميع  

تدرك روسيا قبل غيرها أنه لا يمكن القضاء على الثورة السورية بمجرد انتزاع الأراضي التي حررتها الفصائل المسلحة من سلطة الأسد على مدار سنوات الثورة، كما تدرك أن إمكانية استعادة سلطة الأسد على كامل الجغرافية السورية أمر دونه عقبات لا يمكن أن توفرها طائرات السوخوي مهما كانت قدرتها على المناورة.

من جهة أخرى، يدرك داعمو الفصائل الثورية أن قواعد اللعبة أصبحت أكثر تعقيداً من أن يصار إلى تعديلها بين ليلة وضحاها، وأن الخيارات المتاحة تبدو من الصعوبة بحيث لا يمكن الذهاب بها بعيداً بأكثر من استخدامها كوسائل للضغط وتحسين أوراق التفاوض ما أمكن.

ربما وحدها إيران من يشذ عن هذه القاعدة وذلك لانطلاق سياساتها تجاه سوريا من أساسات غير عقلانية ولكون عملية صناعة القرار فيها تستند إلى مرجعيات ذات طبيعة أيديولوجية اسطورية بمحتوى تاريخي وثأري، بالإضافة إلى افتقادها إلى رأي عام ضاغط يصوب سياساتها ويرشّدها.

لكن إيران لم تعد لاعباً حراً ومقرراً في الشأن السوري بقدر ما أصبحت طرفاً مموّناً بالمال والرجال للحرب وتعمل تحت سقف المشروع الروسي في سوريا وبات دورها مرتبطاً بدرجة كبيرة بتحوّلات هذا المشروع ورهاناته واحتمالات تغييراته المستقبلية بما فيها عدم التوافق مع روسيا في مفاصل كثيرة في خريطة تلك التطورات المحتملة.

إذاً في الوقت الراهن ولرؤية مشهد الحرب السورية وإمكانية استشراف مآلاتها فإن الأمر يتطلّب معرفة طبيعة السياسات الروسية ورهاناتها وأهدافها، وكذا معرفة قدرات الطرف المقابل وخياراته في المواجهة وقدرته على كسر هذه الهجمة واستيعابها أو على الأقل الحد من تداعياتها قدر الإمكان.

تتضح معالم الإستراتيجية الروسية مع تقدم المعارك على الجبهات، حيث تتخذ هذه الإستراتيجية أسلوب تحقيق المكاسب على جبهات معينة وضمن نطاقات جغرافية محدّدة بهدف استخدامها كأوراق ضغط تفاوضية ودفع المعارضة السياسية إلى قبول هذا الواقع مجبرة، وتحاول روسيا إنجاز هذا الأمر ضمن مهل زمنية لا تتجاوز نهاية هذا الشهر، موعد إعادة التئام مفاوضات جينيف، حيث تسعى روسيا التي وقفت وراء انهيار المفاوضات في جولتها التي كانت مقرّرة نهاية الشهر الماضي إلى إجراء التعديلات المناسبة التي تمنحها السلطة العليا والتقريرية في المفاوضات القادمة.

وتعرف روسيا جيداً أنه من غير الممكن الاستمرار في حملتها لوقت طويل، ليس بسبب تجنّبها الغرق أكثر في الوحل السوري، ولكن لإدراكها أن ذلك سيدفع الكثير من القوى الإقليمية والدولية إلى التخلّي عن الحذر في مواجهتها والبحث عن بدائل أخرى تدفع موسكو إلى إعادة صوغ مقاربتها في التعاطي مع سوريا، وهو أمر قد لا تجازف روسيا في الوصول إليه بالرغم مما تحاول تصويره عن استعدادها للذهاب بعيداً في الحرب السورية، ذلك أن الاستمرار في التصعيد من شأنه التخريب على أهدافها من هذه الحرب إن لجهة تأمين وجود لها في سوريا أو لجهة إعادة علاقاتها مع أوروبا وأميركا إلى ما قبل فرض العقوبات.

في الجهة المقابلة، وضع التدخل الروسي جميع حلفاء الثورة أمام مساحة ضيقة من الخيارات، وهو وضع لا شك ان هذه الأطراف وضعت نفسها به من خلال ترددها الطويل وضعف استجابتها وتقديراتها الخاطئة في أحيان كثيرة، وما كان ممكناً تقديمه في فترة سابقة للثورة وبطريقة أقل صعوبة، وبخاصة الأسلحة القادرة على تغيير الموازين وتحديداً الصواريخ المضادة للطائرات، صار اليوم مستحيلاً لأنه ينذر باحتمال نشوب حرب على المستوى الدولي، لكن هذه الأطراف ما زالت تملك خيارات أخرى شريطة تعديل صيغة العمل المقاوم الجاري في سوريا وهي من خلال هذه الوسائل تستطيع تحقيق نتائج مهمة وإن احتاجت لمدى زمني أطول.

على ذلك، يبدو أن جميع اللاعبين لا يملكون هامشاً واسعاً للمناورة لتحقيق أهدافهم، ثمة حدود لا يمكن لكل لاعب تجاوزها كثيراً، وهو مضطر إلى تقديم التبريرات الدائمة من أجل الاستمرار في تحركه لكل يوم زيادة، ما يعني أن الرهانات الحقيقية ما زالت معقودة على طاولة المفاوضات بدرجة كبيرة وإمكانية الوصول إلى صيغ مناسبة ترضي الأطراف كلاً بحسب أهدافه وطموحاته.

لكن ذلك لا يعني أن الأمور غير مرشّحة للتصعيد وحتى لانقلابات دراماتيكية عند نقطة معينة، جميع الأطراف تتعاطى مع الأزمة بسياسات حافة الهاوية لتقوية أوراقها، كما أنها تمارس اللعبة بنزق وتوتّر كبيرين، وتراهن على خوف الآخر وتراجعه عن المواجهة، وفي ظل هكذا مناخ تصبح دائرة المخاطر أكثر اتساعاً بما يعكس حجم الورطة التي يعاني منها جميع اللاعبين في سوريا.

() كاتب من سوريا