هدنة سوريا وثمن المقايضة الروسية – التركية في سقوط حلب!
تفسيرات متناقضة لوقف النار.. الكرملين قلق من خربطة إيرانية و«لغم جبهة فتح الشام»
«موسكو وجّهت رسالة صارمة للأسد للتخلي عن «وهم القوة» والتزام الاتفاق»
الشيطان يكمن في التفاصيل. هي التفاصيل التي غالباً ما تكتسي اللون الرمادي وتلفّها الضبابية وتتسلل من ثنايا التفسيرات المتعددة والتباينات والخلافات في المواقف والرؤى والتصوّرات لتنسف التسويات والاتفاقات التي يتم إنجازها. إنها الحال التي تنطبق على الاتفاق الروسي – التركي لوقف إطلاق نار شامل في سوريا بين النظام والفصائل المسلحة في المعارضة على كافة الأراضي السورية.
روسيا شريكة النظام وحليفه الإيراني وميليشياته الشيعية في منع انهياره بداية أمام المعارضة, مروراً بتحسين وضعه الميداني, وصولاً إلى رجحان كفة ميزان القوى لصالحه، تُقدّم نفسها اليوم على أنها شريكة في صنع السلام السوري مع تركيا التي تنطبق عليها أيضاً صفة الشريك – الداعم للفصائل المسلحة. وكل من الشريكين هو راعٍ وضامن لطرف، بما لديه من قوة ضبطٍ وتأثير على جماعته.
على أن الضمانة الروسية – التركية ليست بالتأكيد محسومة النتائج لجهة مدى تنفيذ الاتفاق وصموده في فترة الاختبار التي يفتح نجاحها الباب أمام المرحلة الثانية من خارطة الطريق بالذهاب إلى «محادثات الأستانة» انتقالاً للبحث في الحل السياسي. فثمة متضررون على ضفتي الاتفاق، وسيسعون إلى خربطة المرحلة الأولى كونها المعبر إلى المرحلة الثانية، وفشلها سيُفضي إلى قطع الطريق أمام الحل السلمي في التوقيت الراهن.
ما يُقلق موسكو كثيراً ليس الفصائل المتضررة على ضفة تركيا، إذ أن لدى الكرملين رهاناً كبيراً على الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لقدرته على ضبط تلك الفصائل، أو على الأقل معالجة المسألة بالشكل الذي لا يؤول إلى نسف الاتفاق. فالرئيس الروسي فلاديمير بوتين اختبر نظيره التركي في مآزق عدة خلال الأزمة السورية، فوفى بما وَعَـدَ به، محققاً للروس والنظام وحلفائه إنجازات في تطويع قرى ومناطق عبر مصالحات وتبادل وترحيل وإجلاء، وصولاً إلى شرق حلب التي ما كانت لتسقط – بإقرار الروس – لولا سحب الأتراك الفصائل المحسوبة عليهم كلياً وخلخلة الجبهة وإضعافها بوقف الإمداد عنها.
القلق الروسي ينطلق من اقتناع بأن إيران، بحرسها الثوري والميليشيات التابعة له على اختلاف جنسياتها، منزعجة من فحوى الاتفاق، إذ أن سقوط حلب الشرقية فتح شهية هؤلاء على استمرار خيار الحل العسكري، متناسين أن سقوطها ما كان ليتحقق ويسجل، في خانة انتصارهم والنظام، لولا انتهاج موسكو سياسة الأرض المحروقة واستخدام المنطقة كحقل تجارب لأسلحتها التدميرية، ولولا المقايضة التركية – الروسية بين حلب الشرقية و«مدينة الباب» التي لم يكتفِ الروس خلالها باتفاق «تقاسم الخرائط»، بل يعملون اليوم على شن ضربات جوية لمساندة القوات التركية التي تساند «درع الفرات» في معركته ضد «داعش» داخل المدينة، والتي تحقق بذلك عملياً القضاء على الكانتون الكردي.
هذا التناغم الثنائي المبني على مصالح مشتركة جيوسياسية واقتصادية تتعدى سوريا إلى أوروبا وآسيا، لا يلقى ارتياحاً لدى طهران، التي ترى أن ثمة رهاناً روسياً على أردوغان يصل إلى حد المغامرة. فما يقدّمه أردوغان لم يأت إلا نتيجة العلاقة المتذبذبة مع الأوروبيين والأميركيين، والذين لم يقفوا الموقف المطلوب حين واجه الأزمة مع موسكو جراء إسقاط الأتراك طائرة السوخوي الحربية على الحدود التركية – السورية، وما زاد من تأزمه السياسي حال الانقسام الداخلي جراء الانقلاب الفاشل الذي يسود الأتراك حياله اعتقاد شبه راسخ بأن الاستخبارات الغربية، ولا سيما الأميركية، كانت المحرّك والمحـفّز له، وليس الداعية التركي فتح الله غولن سوى الواجهة.
لكن القلق الروسي حيال احتمال خربطة الحرس الثوري الإيراني، دفع بالقيادة الروسية إلى العمل على صوغ تفاهمات واضحة مع الجناح السياسي ممثلاً بالدبلوماسية الإيرانية والرئيس حسن روحاني في عملية استيعابية لا تخلو من البعد عبر التطويق للحرس. ورهان موسكو في إمكانية لجم طهران عن لعب دور سلبي في سوريا ينطلق، في جانب منه، على موقف سيّد «البيت الأبيض» الجديد دونالد ترامب الذي سيستلم مهامه في غضون عشرين يوماً، وموقفه السلبي من إيران التي ستكون عندها بحاجة للسند الروسي في مواجهة الضغوط الأميركية على خلفية ما ينتظر الاتفاق النووي الإيراني وتداعيات ذلك على العلاقة الأميركية – الإيرانية، وتمدّد النفوذ الإيراني في المنطقة الذي ساهم غض طرف إدارة أوباما عنه، إلى تعزيزه.
وموسكو العالمة برغبة الرئيس السوري بشار الأسد بتبني الخيار العسكري من منطلق «وهم القوة» وجهت رسالة جدية وصارمة لحليفها بضرورة توفير المستلزمات المطلوبة لتأمين كل الفرص لنجاح اتفاق وقف إطلاق النار، ومنه الانطلاق إلى العملية السلمية. وهو أمر لا يجد منه الأسد مناص، وإن كان يأمل أن تتعقد الأمور وتتباين التفسيرات بما يفسح المجال أمامه في تحقيق مزيد من القضم العسكري، ويُعيد مسار الخيار العسكري الذي يتقاطع به مع إيران وميليشياتها.
المصلحة، وربما الحكمة الإيرانية، ومعها ضرورة التزام النظام بقرار موسكو، تمليان عليهما الأخذ بالتوجهات الروسية والذهاب معها حتى النهاية، في انتطار ما ستظهره الأيام والأسابيع المقبلة من قدرة لدى أردوغان على تنفيذ تعهداته الضامنة لفصائل المعارضة المسلحة التي وقّعت الاتفاق.
لكن الخطورة تكمن في التفسيرات المتناقضة عن الجهات التي يستثنيها وقف إطلاق النار. فكل فريق يُفسّر هذه النقطة من زاوية مصالحه وأجندته. واللغم الحقيقي لا يتعلق بـ «داعش»، التي ليس هناك خلاف حولها من الجميع، بل بـ «جبهة فتح الشام»، حيث أن الاتفاق جاء ملتبساً حيالها في «غموض متعمّد» بين الروس والأتراك، إذ أن معالجة وضع «جبهة النصرة» سابقاً، الموجودة بقوة في غرب إدلب، سيكون متروكاً لمرحلة مقبلة يكون معها قد تبلورت معالم التصوّر حول كيفية صوغ شراكة فعلية بغطاء أممي في محاربة الإرهاب. وهو الأمر الذي يقضّ مضاجع النظام وإيران وميليشياتها المراهنة على أن تشهد مناطق المعارضة حرباً أهلية بين «جبهة فتح الشام»، التي تسعى إلى تجميع فصائل إسلامية في سياق هيئة واحدة لتعزيز موقعها على الأرض، وبين الفصائل المعتدلة المشمولة بوقف إطلاق النار. هؤلاء ينظرون إلى أن المعارضة المعتدلة، الضامنة تركيا لها، أضحت اليوم أمام الامتحان: إما المواجهة مع «جبهة فتح الشام» ما سيؤول، باعتقادهم، إلى انتصار الأخيرة، وإما رفض التمايز واعتبار أن «النصرة»، سابقاً، مكوّن سوري وجزء من الاتفاق، ما يعني أن ذريعة استهداف تلك المناطق متوفرة!