يمكن لمن يرغب، أن يذهب إلى أبعد الحدود في توصيف الموقف التركي. لكن لمن يريد الامر ببساطة شديدة، يمكن التوضيح أن حكومة رجب طيب اردوغان، ومنذ عام 2011، سعت بكل ما تملك من قوة إلى الامساك بكل سوريا.
فاوضت بشار الأسد على إدخال حلفائها من الإخوان المسلمين في دائرة القرار، ثم أطلقت العنان لكل قدراتها الامنية والعسكرية والاعلامية واللوجستية، لتوفير رعاية مباشرة لعشرات المجموعات المسلحة، قبل أن تتبلور الأطر العسكرية في شكلها الحالي. تغاضى الاتراك عن نموّ أكثر المجموعات تشدداً، ما دام الهدف هو إسقاط الأسد. ولكن، بعد خمس سنوات، أقرّت تركيا أردوغان، غصباً أو طوعاً لا فرق، بأن المهمة لم تتحقق… وأن الأسد نفسه لا يزال يتمتع بدعم قسم لا بأس به من الشعب السوري، وأن حلفاءه في لبنان والعراق وإيران، ثم روسيا، يعطون الأدلة يوماً بعد آخر على أنهم لن يتركوه يسقط، بل هم فعلوا أكثر من ذلك في خلال سنوات القتال. حتى وصل الامر الى تشكّل اقتناع لدى أنقرة بأن المجموعات الحليفة لها داخل سوريا ليست قادرة وغير مؤهلة، لا سياسياً ولا عسكرياً ولا غير ذلك، للقيام بالمهمة.
طبعاً، يتصرف الاتراك بواقعية كبيرة. لا يوبّخون المعارضة السورية كما تفعل القيادات القطرية والسعودية والإماراتية والاردنية، التي باتت تخصّص نصف حديثها عن سوريا لشتم المعارضين المتلهين بالأموال والنفوذ، فقط كي تلقي عليهم مسؤولية الفشل.
في أنقرة، يتصرف الجميع وفق منظور مختلف حيث الحسابات المباشرة، السياسية والعسكرية والامنية والاقتصادية، لا تقول إن مشروع إسقاط الأسد قد فشل فحسب، بل إن الازمات تنعكس سلباً، وبقوة، على تركيا. فها هم الاكراد يتقدمون، بدعم سوري – إيراني – روسي، أو أميركي – عراقي. وهم باتوا على وشك إقامة حزامهم الذي يمتد على قسم كبير من الحدود التركية – السورية. وهو عنوان يكفي لقلب كل المفاهيم لدى حكام أنقرة. فكيف إذا أضيفت اليه الأزمة مع روسيا وإيران والعراق، وانعكاساتها الاقتصادية والسياسية المباشرة على تركيا؟ كذلك فإن هناك عنصراً آخر، يتمثل في الاجواء الداخلية، حيث توسعت دائرة المعترضين على السياسة المتبعة تجاه سوريا، وصار الأمر محل نقاش حتى داخل دوائر الحزب الحاكم، وليس بين معارضيه فقط. وبدأت حكومة أردوغان تشعر بأن تركيا لن تكون بمنأى عن الفرز الطائفي.
وحتى بعد انقلاب 15 تموز، ظهرت لاحقاً عناوين خافتة، عن قلق من كون جماعات طائفية عرقية أيّدت ضمناً الانقلاب، ليس حبّاً بالذين يقفون خلفه… لكن كرهاً بحكومة أردوغان وحزبه.
كل ذلك جعل تركيا تقترب من لحظة اتخاذ قرار له بعده الاستراتيجي. ومهما جرى الحديث عن مصالح هنا أو هناك، وأن أنقرة تحاول كسب الوقت لحصر الخسائر، إلا أن التحول حصل: لم يعد الهدف الإمساك بسوريا، بل الإمساك بجزء منها. ولم يعد الهدف ربط نزاع من حلفاء الأسد، بل تسوية معهم في المنطقة. وكل ذلك دفع الى ما حصل مؤخراً. وفي هذا السياق، بدأت الرحلة التركية الجديدة.
صحيح أن تقاطعاً كبيراً للمصالح نشأ بين تركيا وإيران والعراق وحكومة الأسد، حيال رفض الدولة أو الكانتون الكردي. وهذا تقاطع كاف لبلورة أشكال من التعاون. لكن الجديد أن تركيا لم تعد تثق بأن الغرب سيحفظ لها مصالحها. وها هي تشاهد الاميركيين، ومعهم الأوروبيون، يدعمون التمدد الكردي. فصار لزاماً عليها القيام بأمر عملي. وتركيا تدرك أنها غير قادرة على القيام بخطوة من شأنها أن تضعها في مواجهة مع الاميركيين، ولا على إعادة تسخين جبهتها مع إيران وروسيا. وهذا ما دفعها الى ترتيب «إطار تسوية»، مكّنها من الحصول على «غضّ طرف» للقيام بعملية عسكرية تعطل بموجبها عملية التمدد الكردي، لكن من دون أن توجه ضربة الى مصالح روسيا وإيران، وحتى إلى النظام في سوريا. وهو ما يعني عملياً أن المقايضة الممكنة هي أن تركيا حصلت على موافقة ضمنية من جانب إيران وروسيا، وحتى الولايات المتحدة، لتحصيل ضماناتها الحدودية بيدها، مقابل أن لا تكون هناك أي خطوة إضافية يمكن أن تؤثر على المصالح الاستراتيجية لبقية الأطراف. كيف يمكن أن يتحقق ذلك؟
يمكن من خلال وضع سقف زمني، وإطار جغرافي للعملية العسكرية، بما يمنع قيام كانتون كردي. ويكون ممكناً، من خلال عملية لا توجب ضرب الفصائل المسلحة الحليفة للولايات المتحدة. ويكون ممكناً، من خلال عدم خلق قواعد اشتباك جديدة تؤثر على حركة السلاح الروسي جواً وبحراً وحتى على الأرض. ويكون ممكناً من خلال ضبط معيّن للحدود التركية ــ السورية، بما لا يجعل التدخل التركي عائقاً أمام المشروع السوري ــ الإيراني ــ الروسي لاستعادة الدولة السورية للسيطرة على حلب وأريافها الشرقية والشمالية والجنوبية، على أن تبقي الارياف الغربية محل نزاع يصعب على أحد توقع نهايته من دون حل سياسي.
على هذا الوقع، انتقلت المفاوضات الروسية – الاميركية حول سوريا الى مستوى جديد. وإصرار الولايات المتحدة على عدم كشف تفاصيل التفاهم مع الروس، ليس هدفه حمايه الاتفاق، بل عدم الظهور بمظهر من هو مستعد لبيع عدد غير قليل من حلفائه. ويكفي أن ينشر الروس تفاصيل الخرائط العسكرية للمناطق الواقعة تحت سيطرة المسلحين، حتى يكتشف العالم أن «جبهة النصرة» هي الطرف الأكثر نفوذاً. وبالتالي فإن مواجهة هذا الفريق، ومعه المجموعات المتصلة به، ستدفع بالولايات المتحدة إلى أن تكون شريكاً مع روسيا وإيران والنظام السوري في تنفيذ المهمات العسكرية والأمنية. حتى التفاصيل الخاصة بنقاط المراقبة والمعابر وكيفية التصرف، ستكشف أن الجانب السوري ــ الروسي ــ الإيراني تعلم من هدنة شباط الماضية، ولم يوقّع على اتفاق عام من دون الدخول في تفاصيل مملة. وهو الأمر الذي أدركه الاميركيون خلال ساعات التفاوض الشاقة، وخصوصاً في المراحل الاخيرة، عندما كان الروس يغادرون الاجتماعات للتشاور مع السوريين والايرانيين حول تفاصيل كثيرة. ولم يكن ممكناً لروسيا السير في أي اتفاق لا يحظى بموافقة دمشق.
ومع ذلك، فإن أحداً من جبهة حلفاء سوريا لا يتعامل مع الامر كأنّه إنجاز كبير. بل إن الروس، هذه المرة، وقبل الإيرانيين والسوريين، لا يثقون بالجانب الاميركي. وهم قلقون بصورة دائمة من عدم ضمان الولايات المتحدة لتنفيذ الاتفاق. وصار الروس يستمعون جيداً الى الجانب الايراني الذي لديه مسلسلات طويلة حول الغدر الاميركي في العراق وسوريا واليمن وأفغانستان، وحتى بما خصّ الاتفاق النووي.
كذلك فإن جبهة حلفاء سوريا لا تلغي احتمال أن يلجأ الاتراك الى تجاوز ما هو متفق عليه. لذلك تتردد بقوة عبارة «الخطوط الحمر» خلال التواصل المباشر بين المسؤولين الروس والايرانيين من جهة والمسؤولين الاتراك من جهة ثانية. والأهم من كل ذلك أنّ الولايات المتحدة حاولت، على هامش هذه المفاوضات، فتح ثغرة للتواصل المباشر مع الايرانيين، وهو ما جاء عليه الرد سلبياً وبصور قاطعة: اذهبوا وتحدثوا مع الروس، أو اذهبوا وفاوضوا الأسد مباشرة. وغير ذلك، يفهم الاميركيون، ومن خلالهم حكام الخليج، أن إيران التي رفضت ضمّ ملفات المنطقة الى ملف المفاوضات النووية، لن تقحم أي ملف آخر في تفاصيل الملف السوري.
المهم أن الهدنة اليوم تمثّل اختباراً جدياً للجانبين التركي والاميركي. أما من جانب دمشق والحلفاء، فالاقتناع كبير بأنه في حال حصلت عملية غدر جديدة، فإن برنامج المواجهة الشاملة سيظل الممر الإلزامي نحو استعادة كامل سوريا.