Site icon IMLebanon

سورية: هدنة التقسيم… أم محطة في المسار؟

مع قراءة هــــذا المقال، يفترض أن يكون اتــــفاق وقف إطلاق النار في سورية قد بـــدأ بالسريان، هذا إذا التزمت جميــــع الأطراف، وما أكثـــرها، بهــذا الاتفاق الذي تم التوصل إليه بين الولايات المتحدة والاتحاد الروسي بموافقة أبرز دول المنطقة: المملكة العربية السعودية وإيران. وحول هذا التطور المهم، كثير من التساؤلات تطرح نفسها، وسنسعى الى الإجابة عن بعضها.

هناك مثل إنكليزي يقول: «الخبر جيد جداً الى درجة عدم التصديق». وهذا ما ينطبق على اتفاق وقف إطلاق النار. فهذا التطور يحدث وسط كثير من الشكوك من جانب أكثر من جهة معنية به، خصوصاً الولايات المتحدة وروسيا. والسؤال الكبير هو التالي: هل حان الوقت فعلاً لوقف المجازر الكبرى، وعلى أي أساس، بعد انقضاء ما يزيد عن خمس سنوات من الحرب المدمرة؟

إن طبيعة التوصّل الى هذا الاتفاق تؤكد «عولمة» إنهاء الحرب السورية، أو في صورة أدق الحرب في سورية.

في المقال السابق («الحياة» 13 شباط – فبراير)، تحدثنا عن أن سورية عشية «هدنة إنسانية» بعد التصعيد الخطير الذي شهدته المواجهات الدائرة، واستمرار الاشتباكات حتى اللحظات الأخيرة التي سبقت الاتفاق على وقف النار. لكن الاتفاق لا يشمل تنظيم «الدولة الإسلامية» (داعش) ولا «جبهة النصرة»، الأمر الذي يطرح السؤال: هل سيلتزم التنظيمان بوقف النار أم أنهما سيستمران في القتال، وعندها لا مفر للقوى الأخرى من الانخراط مجدداً في المعارك والمواجهات ولو تحت ستار الرد على النيران؟

الشكوك الكثيرة التي تحيط بالاتفاق تأتي من الولايات المتحدة، فيما روسيا تريد منح فرصة للسلام في سورية على «ارتباطها» العسكري الذي يمكن أن يتوقف عند حدّ معين، وأن محادثات الحلول البعيدة المدى يمكن أن تجري بين الأفرقاء وسط هدوء جحيم المعارك. وهذا التردد الأميركي نتاج السياسة التي اعتمدها الرئيس باراك أوباما حيال سورية ودول المنطقة، لذا لا تريد واشنطن أن تقطف موسكو ثمار أي اتفاق في سورية بمفردها، بخاصة أن أوباما هو في الأشهر الأخيرة من ولايته، ولا يريد التورّط بعدما دفعت الولايات المتحدة الثمن الباهظ لغزو العراق.

وقد جرى استخدام الخط الأحمر المباشر بين البيت الأبيض والكرملين في سعي الى ضبط تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار، وهذا الأمر تم بناء لطلب بوتين، الذي يتمنى ألا يطول قتال قواته في سورية طويلاً ولو اقتصر الأمر حتى الآن على قصف الطيران من الأجواء. وفي معلومات موثوقة، فإن روسيا انتهت من بناء قاعدة عسكرية لها في منطقة اللاذقية، ما يعني أن موسكو تخطط للبقاء لفترة أطول، بغض النظر عن الحلول.

وبقطع النظر عما ستؤول إليه التطورات الظرفية، فما برز الحديث عنه أخيراً هو حديث «تقسيم سورية»، الأمر الذي كان يتم تحاشيه وعدم التعرّض له سابقاً.

وفي سياق إنعاش الذاكرة، نذكر بعض المقالات ومع تواريخ ظهورها، والتي تشير في شكل أو في آخر الى لأن سورية سائرة نحو… التقسيم. مثلاً لا حصراً: «هل بدأ التقسيم الفعلي بالتوزيع الإداري في سورية («الحياة» 6 نيسان – أبريل 2013).

وتجدّد الحديث عن عسكرة الحل: سورية واحدة أم سوريات؟ («الحياة» 22 شباط 2014).

و «التدخل الروسي يمنع تقسيم سورية أم يعجل فيه؟» («الحياة» 17 تشرين الأول – أكتوبر 2015).

و «صراع أميركي – سوري وحديث عن سوريات» («الحياة» 14 تشرين الثاني- نوفمبر 2015).

وإذا ما انتقلنا الى الأيام الأخيرة، نلاحظ ما يلي:

قال وزير الخارجية الأميركي جون كيري، أمام لجنة العلاقات الخارجية لمجلس الشيــــوخ، أنه «ربما من الصعب إبــقاء سورية موحدة إذا استغرق إنهاء القتال فتــــرة أطـــول»، وهذه أول إشارة واضحة من جانب كيــري بهذا المعنى. وقبل أسبوعين، أشار وزير الخارجية البـــريطاني فيليب هاموند، الى اقتراب القـــتال من «المنطقة العلوية»، وكانت أيضاً إشارة تُستخدم للمرة الأولى.

وقبل المضي في الاسترسال، نستعرض ولو في إيجاز شديد بنود اتفاق وقف إطلاق النار بين عواصم القرار في الإقليم والعالم.

الاتفاق:

1- وقف الأعمال العدائية بدءاً من الساعة الثانية عشرة من ليل 26 – 27 شباط، بأية أسلحة بما في ذلك الصواريخ وقذائف الهاون والصواريخ المضادة للدبابات ضد قوات النظام السوري وأية قوات مرتبطة بها.

2- الامتناع عن السعي الى الاستيلاء على أرض استعادتها من أطراف أخرى خلال فترة وقف إطلاق النار.

3- السماح للوكالات الإنسانية بالوصول السريع والآمن ومن دون عوائق الى جميع أنحاء المناطق المحاصرة، وإدخال المساعدات الإنسانية العاجلة الى جميع المحتاجين.

4- الاستخدام المتناسب للقوة (في إطار الضرورة لمواجهة أي تهديدات طارئة) وفي حالة الدفاع عن النفس.

5- مراقبة تنفيذ الاتفاقات المذكورة من جانب جماعات المعارضة المسلّحة، وتقديم التزام من القوات الحكومية السورية وجميع القوى التي تدعم أو ترتبط بالقوات المسلّحة السورية، وتأكيد الاتحاد الروسي، قبولهم (حرفياً) الاتفاق في موعد لا يتجاوز منتصف ليل 26 شباط، وقبولهم تنفيذ الشروط المتعلقة بالتنفيذ الكامل لقرار مجلس الأمن 2254 الذي أمر بالإجماع في 18 كانون الأول (ديسمبر)، بما في ذلك الاستعداد للمشاركة في عملية تفاوض سياسية تحت رعاية الأمم المتحدة.

وينصّ الاتفاق كذلك، على استعداد كل من الاتحاد الروسي والولايات المتحدة على العمل في طريقة فاعلة، وتطوير الإجراءات اللازمة لمنع الأطراف المشاركة في وقف الأعمال العدائية من التعرّض لهجمات من القوات الروسية المسلّحة أو من قوات التحالف لمكافحة «داعش» أو من قوات النظام السوري أو غيرها من القوى الداعمة لها والأطراف الأخرى، والتزام كل الأطراف بالفعل من أجل الإفراج المبكر عن المعتقلين، بخاصة النساء والأطفال.

لكن، هل سيطبّق هذا حرفياً في الميدان؟

من المسلم به، أن مختلف الأطراف المتدخلة والمتداخلة في الحرب السورية تحتاج الى هدنة لإجراء مراجعة هادئة لما ستؤول إليه التطورات، لكن مسألة التزام كل الأطراف بوقف إطلاق النار من الأمور المشكوك فيها.

والمرحلة تزدحم بالتساؤلات أكثر من الإجابات، ويأتي السؤال المحوري: هل الحرب السورية اندلعت شرارتها، كي تنتهي عند هذا الحد؟

قد يكون من السذاجة المزدوجة، السياسية والعسكرية، التصوّر بأن وقف إطلاق النار محطة أخيرة في سياق هذه الحرب المدمرة، وأن تنفيذ الاتفاق سيضع حداً لـ «الأعمال العدائية» كما ينص الاتفاق، مع استخدام بعض نصوصه التعابير المطاطة التي تعني أكثر من معنى ومدلول!

إذاً… الحرب السورية انطلقت كي تبلغ مرحلة أكثر «جذرية»، وبالتالي فهذا الأمر يفترض أن إعادة الخريطة السورية الى جغرافيتها الطبيعية من رابع المستحيلات.

وهذا الأمر يسمح بطرح الاستنتاج التالي:

هل الاتفاق الحالي لوقف إطلاق النار هو الهدنة التي تسبق خطوات التقسيم ورسم الخرائط الجديدة؟

أم أن الاتفاق الحالي محطة في سياق هذا المسار، الأمر الذي سينفي العودة الى إطلاق النار مجدداً وصولاً الى تكريس «التقسيم» وقيام كيانات مفكّكة ستعيد تغيير خريطة المنطقة مجدداً؟!

يصـــحّ هنا أن أستعيد بعض الحوار الذي تمّ بين الرئيس بشار الأسد وأحمد داود أوغلو (وزير خارجية تركيا، في حينه).

مع انطــلاق الشرارات الأولى للأحداث في سورية، حضر الى دمشق داود أوغلو، وبـــعد لقاء مطوّل (ست ساعات ونصف الســـاعة) مع الأسد، قال: وددت أن أنقل إليك هـــواجس الرئيس أردوغان، الذي لا يريد أن يــــرى سورية تقسّم وأنت رئيس لها… وكان رد الأسد: بلّغ رئيسك أردوغان: في حال تقسيم سورية، فإن الأمر لن يقتصر عليها فحسب، بل على كل المنطقة، وفي الطليعة تركيا. ومع عودة أوغلو الى أنقره ونقل ما جرى الى أردوغان، خرج الرئيس التركي بتصريح قال فيه: لقد بدأ تقسيم سورية.

وبعد…

عندما نعرض لمسار الأحداث ونستعرض أخطار تفتيت بعض دول المنطقة وتقسيمها، فهذا ليس من قبيل «التسويق» أو «التبشير بالتقسيم»، بل هو تحليل موضوعي يستند الى العديد من المعطيات الحسية. كذلك الأمر عندما نعرض لأخطار التقسيم في المنطقة انطلاقاً من سورية، فهذا لا يعني أنه الحل المثالي للمأزق القائم، بل هو نتاج طبيعي لما ستؤول إليه التطورات.

ونحن في ذكرى انقضاء مئة عام وعام على اتفاقات «سايكس- بيكو»، تبدو المنطقة عشية تبدلات ومتغيرات جذرية ومهمة، وإذا كان الاتفاق الفرنسي- البريطاني قد وزّع مناطق النفوذ في المنطقة، يبدو الآن كأنه قد حان موعد التقسيم الجغرافي وحتى العرقي!

وفي إطار «الحل السياسي» للحرب السورية بعد كل هذا الدمار وهذا الخراب…، تظهر الدعوة الى إجراء انتخابات يقرر فيها السوريون من يريدون للمرحلة الانتقالية وما بعد.. وهذا ما أعلن عنه الأسد. لكن، هل يمكن إرسال صناديق الاقتراع الى الملايين المهاجرة والتائهة في أعماق العالم وعلى شواطئه، بحيث يدلي المهاجرون والمهجرون بأصواتهم، وإلا عما نتحدث ولمن نتحدث؟!

لقد قال الرئيس أباما قبيل ساعات قليلة من سريان مفعول اتفاق وقف إطلاق النار: «ما يجري في سورية حرب أهلية وحرب بالوكالة».

صدق الرئيس الأميركي، لكن لا يكفي فقط توصيف الوضع القائم، بل المطلوب بحرارة عدم إضافة ذخيرة جديدة لإبقاء النيران السورية مشتعلة، وفي الأشهر القليلة المقبلة من الولاية يستطيع أوباما أن يتجرد من العلاقات المصلحية، ويغلب مصلحة عامة يجب أن تبقى في سلم أولويات المنطقة، والمواجهة الناشئة على أراضي المنطقة بين ما هو متعارف عليه: الحرب الباردة بين الشرق والغرب. وفي الكلام الأخير: هل يكون تاريخ 27 – 28 شباط 2016 تاريخاً مفصلياً في مسار الحرب السورية، والتي يهدد استمرار اشتعالها بالعديد من الأخطار الجدية ليس على المسرح السوري فحسب بل في مختلف دول الجوار، أم أن هذا التاريخ سيكون محطة من محطات المسار الطويل في إعادة تشكيل المنطقة مجدداً؟ هل نترحم على تفاهمات سايكس – بيكو؟

ثم ماذا عن الكلام الهامس الدائر في واشنطن وموسكو حول (الخطة B) إذا ما فشلت الخطة الحالية؟

مع اشتداد الأزمات، لا يبقى لدينا سوى الدعوات الطوباوية. أن يحمي الله لبنان وسائر الجوار، إذا ما فشل اتفاق وقف إطلاق النار.