منذ انطلاق المفاوضات الأميركية ــ الروسية الأخيرة، كان القلق ينتاب الجميع.
الولايات المتحدة الاميركية لم تعد تثق بجميع حلفائها على الارض، وهي تجاوزت مستوى التوبيخ الى حدود إملاء القرارات عليهم، حتى ولو لم يعجبهم الأمر، وصولاً الى قول دبلوماسي بريطاني إن الأميركيين قالوا لمسؤول خليجي يحتج على التفاهم مع الروس: لقد أخذتم أكثر مما تحتاجون إليه من وقت وإمكانات، وها هو بشار الاسد يتجول في بلاده، وإيران صارت في قلب سوريا، والروس عادوا الى الشرق الأوسط!
روسيا لديها قلق من نوع مختلف.
هي قررت عن وعي كامل الدخول طرفاً مباشراً في الأزمة، لكنها لا تريد أزمة مفتوحة ومن دون أفق. كذلك فإن تجربة ما يقارب عاماً من العمل العسكري والميداني، أسقطت ما تبقى من نظريات حول فكرة الحسم العسكري. وتبين لموسكو أكثر من ذي قبل واقع الدولة السورية ومؤسساتها وتوازنات الميدان وتعقيداته.
تركيا متهمة من قبل كثيرين بأن «محاولة الانقلاب» فيها لم تكن جدية، وأن الاستخبارات العسكرية التركية كانت على علم، وكانت تدرك حجم المتورطين فيه، لكن الرئيس رجب طيب أردوغان فضّل هذا السيناريو الذي يسمح له بتعديلات جوهرية على الادارة الداخلية، العسكرية والامنية والسياسية والاقتصادية أيضاً، وأن ما حصل يعطيه زخماً لقرار بالتحول في ملف سوريا كان قد قرره قبل مدة. ويروي الروس والإيرانيون أن رئيس الحكومة السابق أحمد داوود أوغلو، وقبل أن يغادر منصبه بطلب من أردوغان، تولى تنفيذ مهمة أخيرة، إذ طلب اليه العمل على «تنظيف الملف» السوري. قصد داوود أوغلو موسكو وطهران، يرافقه رئيس المخابرات حقان فيدان. وقال هناك كلاماً واضحاً: نريد الحل، نريد حفظ مصالحنا، ولم نعد نهتم لبقاء الأسد أو رحيله. لكننا لا نريد التورط في الأمر أكثر.
بعد إزاحة داوود أوغلو ووصول بن علي يلدريم، بادر الأخير الى التواصل مع الجانبين الروسي والايراني قائلاً: ما نقله اليكم سلفي لا يزال سارياً. ثم تحدث رئيس الحكومة الجديد عن أنه غير متورط شخصياً كداوود أوغلو في مواقف حادة، وبإمكانه البدء بعملية التسريب التي تشير الى قرار بلاده تعديل الوجهة في سوريا.
قطر ليس لديها حول ولا قوة. قيادتها لا تزال تعيش هاجس الاستنفار السعودي الذي يكبّلها، وهي تجد في أنقرة سلم النجاة. وقد بادر أمير قطر الى إبلاغ زوار عرب بأن حكومته سوف تقوم بوساطة مع روسيا وإيران لأجل ترتيب اتفاق ينهي الحرب في سوريا. لكن أمير قطر تقدم في البحث، طارحاً مشروعاً لحل يرضي المعارضة السورية، ومقترحاً تشكيل مجلس حكم انتقالي في سوريا، يرأسه قاض مستقل مقبول من الطرفين، ويضم أربعة أعضاء يمثلون النظام والمعارضة مناصفة، وأن الأسد يبقى لمدة زمنية يحددها المجلس الانتقالي.
طبعاً، لم يستمع أحد الى مقترح قطر. حتى الأتراك أنفسهم نأوا بأنفسهم عن هذه التصورات. وللمرة الأولى يسمع القطريون، كما أطراف خليجية، نبرة قلق تركية من المجموعات المتشددة الموجودة قرب الحدود مع تركيا، وأن هذه الجماعات قد تنقلب إذا ما وجدت الفرصة مناسبة، إضافة الى كون أنقرة أوضحت الى من يهمه الامر، أن الهاجس الكردي عاد ليحتل الصدارة.
في المقلب الآخر، لم يبق غير السعودية في دائرة التوتر الأقصى. خسائرها في العراق تتجاوز ما توقعته. وفي اليمن خشية جدية من إقدام أنصار الله على احتلال نجران والتقدم صوب الطرقات الدولية التي تقود الى جدة والى الرياض. ثم جاء إعلان المجلس الرئاسي في اليمن ليفتح الباب أمام مستوى جديد من التنسيق بين أنصار الله والرئيس السابق على عبدالله صالح، كانت أبرز إشاراته فتح صالح لمستودعات الصواريخ الباليستية التي يجرى تطويرها وتحديثها، كذلك جرى استخدام بعضها لقصف مناطق جديدة في العمق السعودي. أما في سوريا، فلم يبق للسعودية سوى بعض المجموعات المنهكة في جنوب سوريا وجنوب دمشق، ولا تملك الادعاء أنها تقدر على قلب الطاولة.
من الجانب الآخر، لا تتصرف إيران وحزب الله على أساس أن الامور سهلة. خبرة خمس سنوات من القتال في سوريا تتيح للجانبين ملاحظة التعب والإعياء اللذين أصابا سوريا وأصابا أيضاً الدولة السورية. ورغم أن القرار حاسم وواضح من جانب إيران والحزب بالوقوف الى جانب الأسد مهما كانت الكلفة، ومنع أي إشارة الى مستقبله السياسي، فإن لهذين الطرفين حسابات تتعلق أيضاً بما يجري في المنطقة، انطلاقاً من ترابط الجبهات. وبعد التثبت من إفشال عملية إسقاط النظام، وتأمين نقاط دفاع قوية ومتقدمة، وتعرض المشروع الآخر للإنهاك، فإن إيران والحزب لا يمانعان السير نحو تهدئة تتيح حلاً سياسياً. ويعرف الجانبان أنه في ظروف سوريا والمنطقة اليوم، ليس هناك من إمكانية لفرض حل لا يناسب مصلحة النظام أو حتى مصالحهما في سوريا.
أضف الى ذلك، فإن حزب الله دخل في مرحلة الإعداد لاحتمال حصول مواجهة جنوب سوريا، خصوصاً بعد ورود معلومات عن نية السعودية، بالتعاون مع الاميركيين والفرنسيين والاردنيين، إطلاق عملية في الجنوب تعويضاً عن خسائر الشمال. وفي هذه الحالة، يقرأ الحزب جيداً الدور الاسرائيلي، خصوصاً أن أطراف غرفة الموك لا يمانعون، بل يفضّلون لو أن إسرائيل تتورط في الأزمة وتساعد على ضرب قواعد ومقار قوات النظام وحلفائه. وهو ما استدعى استراتيجيات من النوع الذي يمهّد لخطوة كالتي قام بها الجيش السوري بالأمس، حيث أعلن نيته التصدي لأي عدوان إسرائيلي.
والى جانب حسابات اللاعبين الخارجيين، فإن الحساب الأكبر يتصل بالأزمة التي يعاني منها الجمهور في سوريا، والتي تفرض التصرف بطريقة تتيح تجنّب إراقة المزيد من الدماء. وبمعزل عن أي نقاش حول مستقبل الحل السياسي وكيفية إنجازه، فإن وقفاً لإطلاق النار، وإتاحة الفرصة لاستعادة التواصل والهدوء وبعض مظاهر الحياة، يمثلان الخدمة الأكبر للشعب السوري المنهك، علماً بأن في جانب النظام من لا يريد تكرار تجربة «هدنة شباط» التي انتهت الى إعادة تجهيز الإرهابيين للقيام بمزيد من أعمال القتل والتدمير.
غداً: تركيا والتنسيق وملفات حلب