تتصاعد الحماوة في الشرق الأوسط وسط ترجيحات بالاقتراب من الذروة أواسط الصيف المقبل، تماماً كما توقّع الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله.
في المرحلة الاخيرة، كان العديد من الاطراف في المنطقة «يدوزن» قراراته ويرسم سياسته انطلاقاً من العدّ العكسي لبقاء الرئيس باراك أوباما في البيت الابيض، وبالتالي أفول سياسة «القوة الناعمة» والتحضّر لسياسة اميركية اكثر خشونة مع الادارة الجديدة المقبلة أيّاً يكن اسم الرئيس.
هكذا سرّعت كلّ من واشنطن وطهران في انجاز الاتفاق النووي بينهما وإعادة العلاقة بين البلدين بعد اكثر من ثلاثة عقود من العداء والمواجهات، وقيل إنّ أحد أسباب اقتناع طهران بإنجاز الاتفاق هو الخشية من إضاعة الفرصة مع وصول إدارة جديدة متشدّدة تقع تحت التأثير الكامل لإسرائيل.
لكنّ السياسة الايرانية التي يتنازعها اتجاهان رئيسيّان، عملت على الفصل بين اتفاقها النووي ومفاعيله وبين صراع النفوذ في المنطقة والدول التي
تعتبرها واقعة ضمن ساحة مصالحها الحيوية، وبالتالي رفضت طهران ولا تزال التواصل مع واشنطن حول ملفات عدة، أبرزها على الاطلاق الملف السوري. ذلك أنّ مرشد الثورة الايرانية السيد علي خامنئي الذي يتولّى بنفسه وجهة مسار بلاده يُراهن على قدرة بلاده بالتحالف مع النظام السوري على انجاز خطوات عسكرية تسمح في الجلوس بوضع افضل حول طاولة المفاوضات، وهذه الإنجازات تعطي بلاده في التوازنات الإقليمية أوراقاً قوية، فيما تركيا ستصبح أسيرة حدودها الجغرافية ووفق تأثير إقليمي محدود جداً.
خامنئي الذي ما برح يُردّد خيبة امله من واشنطن التي لم تلتزم بعد كلّ بنود الاتفاق النووي، أرسل ضباطه وخبراءه الكبار الى سوريا تحضيراً لمواجهات عسكرية طويلة وعنيفة.
في المقابل، لم ييأس البيت الابيض من السعي إلى تحقيق انجاز سوري قبل رحيل أوباما. وبات واضحاً التفاهم الذي أنجزته الادارة الاميركية مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حول سوريا: إقرار بالدور والمصالح الروسية في سوريا في مقابل المساعدة على انجاز تسوية سلمية وفق توازنات مدروسة يجرى تثبيت أسسها قبل نهاية الصيف المقبل.
لذلك تمايزت موسكو عن طهران في سوريا وأحجمت عن إنجاز حصار حلب تحت ذرائع عدة، وفرضت واقعاً عسكرياً آخر بالسيطرة على تدمر والانطلاق منها الى الرقة لملاقاة الأميركيين الآتين من العراق.
لكنّ اللافت أنّ النظام السوري بكامل تركيبته كان اقرب إلى موسكو من طهران، ورغم ذلك بقيت طهران متمسّكة بمشروعها في سوريا، وهي تراهن على أنّ تقاطع المصالح بين روسيا والرئيس السوري بشار الأسد محدود.
فصحيحٌ أنّ موسكو متمسكة ببقاء الاسد في السلطة للفترة المقبلة، لكنّ هذه الرؤية تبقى خاضعة لمنطق التسويات الدولية الذي قد يطيح بلحظة ما برئاسة الاسد، فيما ايران لا تجد في مشروعها السياسي بديلاً عن الاسد على رأس السلطة في سوريا.
مهما يكن، انطلقت الطائرات الروسية لتأمين تقدّم الجيش السوري في اتجاه الرقة على أن يؤدي ذلك فيما بعد للانعطاف في اتجاه حلب وتأمين تطويق المدينة من جوانبها كافة. وفي الوقت نفسه وفي حركة عسكرية متناغمة زمنياً، انطلقت القوات الكردية بحماية اميركية وروسية للسيطرة على منبج وتأمين المنطقة الحدودية حيث بدت تركيا عاجزة، في وقت دانتها ألمانيا بمسؤوليتها عن المجازر التي ارتكبت بحق الارمن قبل زهاء قرن من الزمن.
هذا التناغم في الحروب المفتوحة في شمال سوريا، واكَب معركة استعادة الفلوجة التي تُحقّق نجاحاً رغم وجود زهاء ألف عنصر من «داعش» داخل المدينة التي أضحت مطوَّقة.
وتبدو واشنطن يقظة لناحية منح القوة العسكرية التابعة للعشائر السنّية أولوية التقدم الميداني و»وراثة» «داعش» في الفلوجة على حساب النفوذ الايراني.
جبهات مفتوحة والقيادة العسكرية الاميركية تواكبها لكنّ الحماوة ليست هنا على رغم ضراوة المعارك. فعلى الرغم من سعي واشنطن علناً ومن خلال الكواليس إلى فتح ابواب التفاهم مع ايران وتحديداً مع مرشد الثورة وفريقه حول سوريا، بقيت خطوط التواصل مقفلة، ربما لوجود قناعة إضافية بأنّ الرئيس الذي يتحضّر للمغادرة غير قادر على إعطاء الكثير ولا حتى على التحرّك بقوة. ووفق المنطق نفسه تبدو دول الخليج العربي وتحديداً السعودية في إطار سياسة تمرير الوقت في انتظار وصول إدارة جديدة يغلب عليها طابع الصقور وقادرة على لجم «الغول» الايراني.
لكنّ هذه الحسابات لا تبدو دقيقة:
أولاً، لأنّ الرئيس الاميركي الذي وسمه خصومه بالتردّد والضعف قد يَجد في الاشهر المتبقية من ولايته فرصة زمنية ممتازة لتبديد هذه الصورة ووفق اسلوب قاسٍ.
ثانياً، لأنّ اوباما يريد رفع حظوظ بقاء حزبه في البيت الابيض في وقت يطلب فيه الشارع الاميركي استعراضَ قوة لعضلات بلاده.
وثالثاً، لأنّ اوباما متفاهم مع هيلاري كلينتون على الخطوط العريضة لسياسة بلاده في الشرق الاوسط، والتي ترتكز على إنجاز «العمل الوسخ» بتثبيت أسس التسوية السلمية في سوريا ولو تطلّب ذلك بعض الشدة، إضافة الى فتح الابواب امام دفع التسوية بين اسرائيل والفلسطينيين والتي تبدو الحلقة الأصعب لا بل الأخطر، بوجود حكومة اسرائيلية متشدّدة، مع الاشارة الى أنّ مارتن انديك وفريقه الخبير بهذه الملفات سيتولّى هذه المهمة في ظلّ رئاسة أوّل سيدة أميركية. وهذا يعني أنّ ادارة اوباما المتفاهمة مع الكرملين تستعدّ لإبراز مخالبها وليس أبداً ما يظنه البعض بأنها دخلت في غيبوبة اشهر الحكم الاخيرة.
وتتناقل الكواليس الديبلوماسية بأنّ البيت الابيض يتحضّر لطرح الملف السوري على مجلس الامن ووضعه تحت الفصل السابع في حال رفض أيّ من الفرقاء تطبيق قرارات الامم المتحدة. طبعاً هذا القرار يصيب دول الخليج وتركيا، ولكنّه يصيب بشكلٍ أساس إيران، ما يعني رفع منسوب اللهيب الى الذروة.
في المقابل، ثمّة إشارة بليغة مرّرها الرئيس السوري بهدوء وصمت، ذلك أنّه كان من المفترض أن يعمل على تعيين رئيس جديد للحكومة مع وصول مجلس نواب جديد. لكنّ الأسد أبقى على رئيس الوزراء الحالي وهي اشارة فهِم منها الغرب مرونة من النظام تجاه المبادرات التسوويّة.
فلو جرى تعيين رئيس جديد للحكومة، فهذا يعني الإصرار على تدشين مرحلة جديدة ومعها استبعاد أيّ تسويات من خلال المفاوضات. أما إبقاء القديم على قدمه، فيعني «ترقيع» الوضع في انتظار طاولة المفاوضات، وهي خطوة متأتّية ربما من نصيحةٍ روسيّة بعدما ساندت موسكو قرار دمشق إجراء الانتخابات النيابية خلافاً لوجهة نظر واشنطن وعلى أساس أنها انتخابات لتجنّب الفراغ لا لتثبيت واقع سياسيّ لمرحلة طويلة، لا بل إنّ البعض قرأ في اغتيال المسؤول العسكري لـ«حزب الله»، «ذو الفقار»، ضربة أمنية قاسية للقيادة العسكرية للحزب في سوريا، ولكن في الوقت نفسه يُمهّد الساحة جيداً أمام إنجاح المفاوضات لاحقاً والتي من المفترض أن تحصل مع «حزب الله» وترسم حدود مصالحه ودوره مستقبلاً.