يتوزع النفوذ والسيطرة في سورية بين أربع دول، روسيا وإيران وتركيا وأميركا، بالإضافة إلى جمهورية الأسد، التي لا تزال لها السيطرة على جيوب عقارية، داخل العاصمة وبعض مراكز المدن، وتستكمل الحرب مسارها لانتزاع ما تبقى من حيوزات تحت يد الجماعات الأهلية، أو القوى المحلية التي صعدت على سطح الحدث في سنوات الصراع الأخيرة.
ليس خافياً أن المحرك الأساس للصراع الدائر بين الأطراف المختلفة صراع على كسب مزيد من النفوذ، أو صراع يروم تثبيت مناطق النفوذ، ما يحيل الصراع إلى صراع على الحصص المحصلة، أو التي تتوقع الأطراف تحصيلها، ويجعل من الأكلاف التي تدفعها هذه الأطراف استثمارات مستقبلية في هذا الصراع.
من الطبيعي أن يأخذ الصراع في هذه المرحلة شكلاً عسكرياً صرفاً، ذلك أنه ما زال في مرحلة المنافسة الساخنة، مرحلة رسم الخرائط وتحديد الحدود والفواصل، وهذه يتم رسمها بأدوات عسكرية، جيوش وأسلحة، الأدوات الخشنة التي تمهد الأرضية والمناخ اللازم لنزول الأدوات الناعمة، الشركات الاقتصادية، وربما مراكز بحوث ودراسات انتروبولوجية لترويض السكان المحليين وتطويعهم.
وتكاد روسيا، بحكم نظامها السياسي والاقتصادي الهجين، تكون أكثر الأطراف انكشافاً في اللعبة السورية، ومنذ البداية كشفت موسكو أنها حوّلت سورية إلى معرض كبير لعرض أسلحتها المختلفة بغرض رفع أسهم شركاتها في سوق السلاح العالمية، في ظل منافسة شديدة بعد تكييفات أجرتها شركات السلاح مع أنماط الحروب الجديدة، الجيل الرابع، قطعتها الحرب السورية ذات الطبيعة الأقرب للحروب الكلاسيكية، وما أثارته من احتمالات حصول حروب إقليمية على هامشها تستلزم نمط الأسلحة الروسية الثقيلة.
وتخطط روسيا لاستكمال مسار منافعها السورية من خلال حصولها على حصة في عمليات تنقيب واستكشاف الغاز على طول ساحل البحر الأبيض المتوسط، في لبنان وإسرائيل وقبرص ومصر، من خلال شركة غاز بروم، التي تسعى إلى احتكار إنتاج وتصدير الغاز في القوس الممتد من وسط وغرب أسيا وصولاً إلى المتوسط، وربما هذا ما يفسر استخواذ روسيا على الجزء الساحلي في سورية.
ويدخل دور الشركات الروسية في الحرب السورية من خلال تفاصيل أصغر من تلك التي يمكن أن نطلق عليها سياسات استراتيجية بعيدة المدى، السلاح والغاز، ذلك أن المرتزقة الروس، الذين يشكلون عنصراً فاعلاً في الحرب السورية، يتبعون شركة «فاغنر» الخاصة، المملوكة لصديق بوتين» يفغيني بريغوجين « أو طباخه، ويشير اهتمام هذا الأخير بمجريات الحرب السورية وتأثيراته فيها إلى دور اقتصادي أبعد من شركة «فاغنر».
وعلى رغم محاولة إيران تغليف تدخلها في سورية بأغطية أيديولوجية، كالمقاومة وحتى نشر التشيع، إلا أن الجزء المهم من انخراطها تموله شركات الحرس الثوري «شركة خاتم الأنبياء»، كما أن العملية مرتبطة ببعد اقتصادي تعبر عنه مراكز القوى التي تستفيد بشكل مباشر من عمليات الصرف تمويل الجهد الحربي في سورية، حتى حزب الله لم يعدم الوسائل الاقتصادية من خلال زراعة الحشيش واستثمار سورية كمنفذ لتجارته مع دول الجوار، بل حتى بيع منتجاته في سورية نفسها التي تحولت إلى سوق لبيع المخدرات.
أما أميركا وتركيا، فهما دولتان خبيرتان بالاستثمارات وعمل شركاتهما خارج الحدود، وإذا ما استقرت الأمور وانتهت الدولتان من ترتيب الأمور في المناطق التي تسيطران عليها، فالمؤكد انهما ستوكلان الجزء الأكبر من إدارة عملياتهما إلى شركات خاصة، أقله لخبرة هذه في إدارة الموارد وضبط النفقات أكثر من الجهات الحكومية.
ولا شك في أن مشروع إعادة الإعمار، سيفرض بقوة منطق سيطرة الشركات وتحكمها في سورية، إذ بعد التوافقات الأولية بشأن الدستور وتركيبة النظام السياسي، من المتوقع أن تنسحب السياسة بثقلها الحالي، لمصلحة الحسابات الاقتصادية البحتة، حيث سيكون لرأسمال والجهات التي تديره الكلمة العليا في تقرير شكل سورية المستقبلية، بما فيه نمط الحياة وطبيعة النخبة الحاكمة وعلاقة الفئات الاجتماعية ببعضها، والمؤكد أن يتم تشكيل هذا الواقع في كل جزء حسب طبيعة الجهة المسيطرة.
على كل حال، هذا الواقع ليس بعيداً من السياق الذي كانت تتشكل فيه سورية بعد عام 2000، فمنذ ذلك الحين شهدت البلاد تحوّلات في طبيعة النخبة الحاكمة وعلاقاتها الداخلية والخارجية، وباتت الشركات عناوين لرجال الحكم والفئات الجديدة الصاعدة، وتغيّر العلاقة بين النظام والفئات الاجتماعية، وبعد أن كانت شرعية النظام متأسسة على علاقته بـ «طبقات» العمال والفلاحين بدرجة أساسية، تركزت اهتماماته على دمشق وحلب، بوصفهما مركز للشركات الكبرى، التي أصبحت بدورها وكيلة لشركات خارجية أكبر أو مرتبطة بها.
انتهى حكم الشركات من العالم مع نهاية المد الاستعماري، وكانت بداياته قد تأسست في غرة القرن السابع عشر مع شركات الهند الشرقية البريطانية والهولندية، بهدف احتكار التجارة مع آسيا، مستغلة وجود دولة رخوة في تلك المناطق ونخب سياسية ممزقة لا تملك مشروعاً وطنياً واضحاً، تماماً بما يشبه الوضع الحالي للنخبة السياسية السورية، حكام ومعارضة.
غير أن تطبيقات حكم الشركات في سورية تأخذ طابعاً أقسى وأقل احتراماً للادمية الإنسانية من الوضع الذي كان عليه سكان جزر المالاوي والهند تحت حكم الشركات البريطانية والهولندية، فقد كانوا بطريقة او اخرى أحد مكونات نظام الحكم من خلال الإحتفاظ بدورهم كمنتجن للتوابل ودورهم في تحديد أسعارها، ما جعل لهم حقوق مطلبية كانت تضطر الشركات إلى تلبيتها مرغمة، اما في سورية فإن الوضع لا يشبهه سوى حالة سكان الكاميرون الذين أوقعهم حظهم العاثر على طريق إنبوب النفط النيجيري ما أدى إلى اقتلاعهم بعيداً من مناطقهم.