حافظت الثورة السورية في بداياتها على الطابع السلمي، وظلّت بعيدة عن اللجوء إلى العنف. فقد تدرّجت مطالب المتظاهرين وحاولوا منع تسرّب شعارات طائفية وجهوية إلى ثورتهم، لأنّ الشعب بمختلف طوائفه وطبقاته عانى الفساد وسياسة القمع، وذاق أبناء كل الطوائف عذاب السجون المدلهمّة. أدرك المتظاهرون ضرورة تضافر الجهود، وإذا فشلوا في هذه المهمة، فلن تثمر الثورة سوى مزيد من الألم وتحطيم بلدهم في جميع النواحي الإقتصادية والإجتماعية والسياسية.
لم تستمر الثورة بوتيرتها السلمية نتيجة لإفراط النظام السوري في استخدام القوة ومحاصرة المدن بآليات عسكرية ممّا انتقل بالأوضاع إلى مرحلة حساسة. واتجه مسار الحراك نحو حالة العسكرة. وأخذت مجاميع مسلّحة تظهر في بعض مناطق سوريا إنتهجت التشديد والترهيب ضد أبناء الطوائف، التي تشكّل جزءاً أساسياً من نسيج المجتمع السوري.
وازدادت طموحات الأطراف الإقليمية للتدخل في سوريا كل طرف يأملُ في تعزيز نفوذه وإعادة ترتيب أوراقه وفقاً لِما يخدم مصالحه. فضلاً عن ذلك، فإنّ الفصائل المسلحة تنفّذ أجندة الدول التي تمدهم بالأسلحة والعتاد وتتعهد بهم. من هنا نفهم لماذا أصبح الملف السوري من أعقد الملفات وأكثرها تشابكاً، بحيث أخفقت كل المؤتمرات والوثائق الدولية بما فيها وثيقة جنيف الأولى والثانية في العثور على خيط الحل؟
إنّ جُل المحللين والمراقبين يحمّلون أميركا مسؤولية إطالة الجحيم السوري كونها أكبر قوة عالمية، ولها نفوذ واسع في منطقة الشرق الأوسط، لذلك كان من المفترض أن تمارس واشنطن مزيداً من الضغوط لتسوية الملف السوري، وأن لا تتردد في استخدام الخيار العسكري حالما تفرض الضرورة ذلك. أميركا ظلّت بعيدة عن مقاربة جدية للملف السوري إلى أن ظهر تنظيم «داعش»، وهو من أخطر التنظيمات الإرهابية بعد «القاعدة» لجهة تهديد المصالح الغربية في المنطقة.
بعد سيطرة هذا التنظيم على مساحات واسعة في سوريا والعراق، إضطرت أميركا إلى إعلان تحالف دولي ضد داعش يضم 60 دولة من دون أن تبدي إدارة أوباما أي استعداد للتدخل البري لمواجهة داعش، وحددت دورها بشن غارات جوية على معاقل الإرهابيين في سوريا والعراق.
وظلت فعالية استخدام السلاح الجوي في حرب داعش محدودة، بل سقطت مدن أخرى بيد داعش في سوريا. كما أنّ ما يسمّى بالمعارضة المعتدلة التي تتلقى عناصرها تدريبات في تركيا على يد الأميركيين تنضم إلى صفوف جبهة النصرة بما في حوزتها من عتاد وذخائر عسكرية. هنا يفرض سؤال نفسه: هل فشلت أميركا في سوريا؟
لقد تبنّت إدارة أوباما استراتيجية مختلفة عمّا عَمِل بها جورج بوش الإبن. فضّل أوباما تجنّب حالة الإصطادم مع دول مناوئة لأميركا، أو ما عُرف بمحور الشر في سياق محاولاته لتسويق الإتفاق النووي مع إيران وإقناع أعضاء الكونغرس بالتصويت عليه إيجاباً، إذ ذكّر الرئيس الأميركي بالحالة العراقية كنموذج لإخفاق استخدام خيار القوة العسكرية.
هذا ما يؤكد فشل أي رهان على استخدام واشنطن للخيار العسكري من أجل حسم الملف السوري. كان الأمر واضحاً منذ بداية الأحداث بأنَّ واشنطن تفوّض بعض أطراف إقليمية لإدارة الأزمة السورية وافتتاح مراكز التدريب للمعارضة.
كل هذه المعطيات تكشف عن وجود خلل لدى بعض الجهات في تصوّرها للدور الأميركي، فنحن دأبنا على أن نطالب أميركا أن تعمل أكثر ممّا ترغب، ولا نُحسن قراءة تغيير موازين القوة على الصعيد العالمي، ولم ندرك بأنّ هناك مناطق أخرى تحظى باهتمام واشنطن وتراقب تحولاتها عن كثب. إضافة إلى ذلك، «فإنَّ سلسلة الحروب الساخنة التي خاضتها أميركا في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية نجحت في واحدة منها، وهي حرب الخليج الأولى وعجزت في حسم الحروب الأخرى لمصلحتها».
سوريا وانبعاث الطموحات الروسية
قد تتيح التحولات في المشهد الإقليمي والدولي فرصة ازدياد النفوذ لدولة معينة. هذا ما نجده في استعادة روسيا لدورها في منطقة الشرق الأوسط ودخولها إلى مسرح الأحداث بالقوة من البوابة السورية.
بخلاف كل التوقعات التي كانت تستبعد أيّ احتمال لقيام روسيا بدور محوري على الصعيد الدولي بعد انشغالها بالمشكلة الأوكرانية، يبدو الآن أنّ رهانات الجانب الروسي أكثر ربحاً، وهو لم يتردد في تعزيز حضوره العسكري في سوريا.
موسكو أعلنت أنّها تواصل إمداد الحكومة السورية بالأسلحة الثقيلة في حربها ضد الإرهاب، وبدأت بشن غارات جوية على المناطق غير الخاضعة لسلطة دمشق.
في المقابل إعترضت بعض الدول الإقليمية والدولية على حملة روسيا العسكرية. ولكن ما لا يمكن تجاهله هو التناقض والارتباك في موقف أميركا، ففي وقت رحّب وزير الخارجية الأميركية جون كيري بما قامت به روسيا، أعربَ وزير الدفاع آشتون كارتر عن مخاوفه من أن يؤدى هذا التطور إلى تفاقم الأزمة.
المعارضة السورية بدورها صرّحت بأنها تستهدف القواعد الروسية العسكرية داخل أراضى سوريا، وروسيا لا تريد الإنخراط في الحرب البرية بل تهدف إلى حماية مصالحها الاستراتيجية في الساحل السوري، لذلك يخطىء من يتصوّر بأنَّ تجربة تورّط روسيا في أفغانستان ستتكرر في سوريا.
تأتي هذه التطورات في سياق إدراك المجتمع الدولي لخطورة تداعيات الأزمة السورية على المستوى العالمي، وتأكيد دول الإتحاد الأوروبي على ضرورة إيجاد حل للمشكلة السورية لأنّ استمرارها يعني ازدياد عدد اللاجئين في أوروبا.
بعد تدخّل روسيا يدخلُ الملف السوري مرحلة جديدة وقد تتعمّق حالة الاستقطاب الدولي، وهنا علينا أن نتساءل هل تجد المشكلة السورية طريقها إلى الحل في هذه المرحلة؟ أو مع تواجد الروسي ستصِل المشكلة السورية إلى طريق مسدود ؟