خذوا أسرار «الممانعة» من إعلامها. قد يتماشى هذا المثل المُعدّل مع الأوضاع الحالية لهذا المحور. فعلى الرغم من محاولة الإيحاء بأن «محور المقاومة» يخوض معاركه العسكرية والديبلوماسية صفاً واحداً، إلّا ان ما يظهر في إعلامه، من رسائل داخلية قاسية، بات يطرح تساؤلات عدّة.
أنجزت «إيران روحاني» الاتفاق النووي مع الغرب وانطلقت في حراكها الديبلوماسي لطمأنة «الجار» وللعمل على حل الصراعات في الساحات العربية الملتهبة. لكن يبدو ان طهران ما بعد النووي، لن يكون لها التأثير الرئيسي والمباشر في انتاج نظام اقليمي جديد، وهذا باعتراف «المنظومة الاعلامية» لـ«حزب الله».
أوّل الخلافات داخل «محور الممانعة» ظهر مع المبادرة الايرانية لحل الأزمة السورية، وهي المبادرة التي سرّبت طهران بنودها قبل معرفة دمشق بها. فلماذا تجاهلت ايران القيادة السورية؟ يقول أحد أبرز مُنظّري «المحور» والمدافعين بشراسة عن «قومية وعروبة ومقاومة آل الأسد»، إن «تسريب بنود المبادرة الإيرانية، قبل إطلاع دمشق عليها، شكّل إحراجاً للقيادة السورية. فوزير الخارجية السوري وليد المعلّم كان قد صرّح، كما تقتضي اللياقة الديبلوماسية بين الحلفاء، بأن طهران ودمشق تنسّقان معاً بكلّ ما يتّصل بمبادرات واقتراحات لإنهاء الحرب». ويتابع متحدّثاً عن اسباب انزعاج دمشق من المبادرة قائلا إن «الجديد الذي تم تسريبه، وما لا تقبله القيادة السورية من حيث المبدأ، هو البند المتعلّق بإعادة كتابة الدستور السوري بما يتوافق وطمأنة المجموعات الاثنية والطائفية في سوريا»! ويختم متسائلاً، «هل كان تسريب بند دسترة الإعتراف بالطوائف اشارة إيرانية وديّة، تعلن عن تفهّم مصلحة السعودية (في مشاركة سياسية ، دستورياً، في سوريا)، أم كانت مجرّد تلويحة عتب على السوريين والروس، الذين نسّقوا اختراقات في الحوار مع الرياض وواشنطن دون علم الايرانيين؟».
هنا، لا تجد المنظومة الإعلامية لـ«حزب الله» غضاضة في الاعتراف بأن ايران لم تكن على علمٍ مسبق بالحوار السعودي – السوري الذي هيّأت موسكو له الأجواء. هذا الإنزعاج الإيراني أكّدت عليه مصادر ديبلوماسية في بيروت لـ«المستقبل»، اذ اعتبرت ان تسريب معلومات عن لقاء سعودي- سوري- روسي على إعلام «حزب الله» كان بهدف ضرب اي «حل سياسي» من شأنه ان يُبعد طهران عن اي طبخة دولية لحل الأزمة السورية.
لكن ماذا تريد روسيا؟ ولماذا نسّقت حراكاً ديبلوماسياً مع دول المنطقة بعيداً عن طهران؟
ينقل إعلام «حزب الله» عن مسؤول كبير قوله «إن اليمن حُسم للسعودية والعراق لإيران وسوريا صارت ملفاً روسياً بامتياز»، ما يعني ان ايران لم تعد لاعباً رئيسياً في سوريا. ووصف أحد الديبلوماسيين العرب موسكو، وما شهدته من حراك في الاسابيع الماضية، بـ«المحج السياسي». مسؤولون ايرانيون يحطّون في روسيا بعد ان تغادرها طائرات تحمل كبار المسؤولين العرب وغيرهم. مما لا شكّ فيه ان روسيا استعادت شيئاً من دورها الدولي والاقليمي بفعل التنسيق المستجد مع الاميركيين، والذي لم تشهد له الساحات مثيلاً منذ اندلاع الأزمة الأوكرانية. كما ان بعض الأنظمة في المنطقة كانت سبّاقة في تعويم الدور الروسي، بفعل الامتعاض من سياسة واشنطن. محاور جديدة كان لا بد ان تتشكّل تزامناً مع خلط الاوراق العالمية والاقليمية. أوّل مؤشّراتها ظهر بوضوح مع الانفتاح العربي- التركي على موسكو. وكما المجتمع الدولي، فالروس أيضاً يرسمون أجندتهم وفقاً لمصالحهم الاقتصادية وللمكاسب التي يمكن ان تتحقّق من خلال اي تحالفات. هكذا حطّت طائرة الرئيس فلاديمير بوتين في مطار انقرة ومعه وفد من كبار رجال الاعمال الروس، حيث وقّع اتفاقات كان لها وقعها على أوروبا التي عملت على محاصرة روسيا اقتصادياً. أهم تلك الصفقات، هي إلغاء مشروع خط انابيب «التيار الجنوبي» الذي كان من المفترض ان ينقل الغاز الى اوروبا عبر البحر الاسود ومن ثم الى بلغاريا فالنمسا، واستبداله بخط يمر في تركيا. وهكذا حمى الأتراك الروس من استغلال الاوروبيين لخط غازٍ يمرّ في اوكرانيا ويتعطل في كل مرة تزداد فيها التباينات السياسية بين «الدب الروسي» والقارة العجوز. كما ان خط الانابيب هذا سيحقق الاهداف نفسها دون اية قيود سياسية. أيضاً، زاد في الآونة الأخيرة التنسيق الروسي-السعودي، حيث وقّع الجانبان 6 اتفاقيات استراتيجية في مجال الطاقة النووية والتعاون العسكري، اضافة الى عقود اسلحة بمليارات الدولارات. لكن ما هو المقابل الذي قدّمته روسيا لكلٍ من تركيا والرياض؟
مصادر ديبلوماسية مطّلعة على حراك التسويات في المنطقة، ترى لـ«المستقبل»، ان «موسكو وصلت إلى قناعة تقضي بضرورة تسوية الأوضاع السورية، بما يحفظ مصالحها الاستراتيجية ودور الأقليات». وتطرح روسيا، بحسب المصادر، مرحلة انتقالية لعامين، تقودها شخصية من النظام، وتوافق عليها المعارضة والدول الداعمة لها، وتُهيّئ لإقرار دستور جديد يحفظ حقوق المكوّنات السورية (ربما طائف جديد)، وهو ما يرفضه النظام رفضاً قاطعاً، وتُحضّر لانتخابات تشريعية ورئاسية جديدة. وبحسب المصادر، فإن الأمور لا تزال عالقة عند نقطة، يختلف الروس والدول العربية والاقليمية على معالجتها. فموسكو تؤيّد ان تتم التسوية بعد القضاء على الجماعات الارهابية في سوريا، بينما تطالب الدول الاقليمية بأن تكون الحرب «الجماعية» على تنظيم داعش والجماعات الارهابية خلال الفترة الانتقالية، عبر دمج «الجيش الحر» والفصائل «المعتدلة» بـ«الجيش النظامي» لمحاربة هذا الارهاب. وتصف المصادر التسوية التي يُعمل عليها بـ«نهاية حكم آل الأسد»، قائلة «إن التنازل الأول للنظام سيكون بمثابة التنازل الأخير. اي ان تعديل الدستور، بما يحفظ حقوق الأقليات والاثنيات والطوائف، يعني أُفول حكم عائلة تاجرت بشعار «العلمانية» لعقود، وفرضت تحت ستاره حكماً مذهبياً قام على قمع كافة مكوّنات المجتمع».
وسط هذا الحراك وزحمة المبادرات، يبدو ان أذرع إيران في المنطقة هي الحلقة الأضعف. فطهران باعت الحوثيين في اليمن، وبات إعلام «الممانعة» لا يجد إحراجاً في التحدّث صراحة عن ان اليمن اصبح بيد السعودية. والحراك الاقليمي والدولي الاخير حول سوريا اثبت ان «حزب الله» ليس قوة اقليمية ضاغطة سياسياً، كما حاول ان يروّج قادة هذا الحزب لعقود. وما معركة الزبداني واستماتة «حزب الله» للسيطرة على المدينة، رغم الخسائر الكبيرة التي مُني بها، الا محاولة لفرض واقع ميداني يؤهله للعب دور في التسوية المقبلة.